الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب النِّكَاحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشرح: (بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب النكاح) كذا النسفي، وعن رواية الفربري تأخير البسملة. و " النكاح " في اللغة الضم والتداخل، وتجوز من قال إنه الضم. وقال الفراء: النكح بضم ثم سكون اسم الفرج، ويجوز كسر أوله وكثر استعماله في الوطء، وسمى به العقد لكونه سببه. قال أبو القاسم الزجاجي: هو حقيقة فيهما. وقال الفارسي: إذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد العقد، وإذا قالوا نكح زوجته فالمراد الوطء. وقال آخرون أصله لزوم شيء لشيء مستعليا عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني، قالوا نكح المطر الأرض ونكح النعاس عينه ونكحت القمح في الأرض إذا حرثتها وبذرته فيها ونكحت الحصاة أخفاف الإبل. وفي الشرع حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصحيح، والحجة في ذلك كثيرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد ولا يرد مثل قوله نعم أفاد أبو الحسين ابن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج، إلا في قوله تعالى وفي وجه للشافعية - كقول الحنفية - أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل مقول بالاشتراك على كل منهما، وبه جزم الزجاجي، وهذا الذي يترجح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد، ورجح بعضهم الأول بأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعه لما لا يستفظعه، فدل على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقف على تسليم المدعى أنها كلها كنايات. وقد جمع اسم النكاح ابن القطاع فزادت على الألف. *3* لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ الْآيَةَ الشرح: قوله (باب الترغيب في النكاح) لقوله تعالى وقال القرطبي: لا دلالة فيه، لأن الآية سيقت لبيان ما يجوز الجمع بينه من أعداد النساء. ويحتمل أن يكون البخاري انتزع ذلك من الأمر بنكاح الطيب مع ورود النهي عن ترك الطيب ونسبة فاعله إلى الاعتداء في قوله تعالى وقال الحنفية: هو عبادة. والتحقيق أن الصورة التي يستحب فيها النكاح - كما سيأتي بيانه - تستلزم أن يكون حينئذ عبادة، فمن نفي نظر إليه في حد ذاته ومن أثبت نظر إلى الصورة المخصوصة. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي الشرح: حديث أنس، وهو من المتفق عليه لكن من طريقين إلى أنس. قوله (جاء ثلاثة رهط) كذا في رواية حميد. وفي رواية ثابت عند مسلم " أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " ولا منافاة بينهما فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، وكل منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه. ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون وعند ابن مردويه من طريق الحسن العدني " كان علي في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات فنزلت الآية في المائدة " ووقع في " أسباب الواحدي " بغير إسناد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة - وهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن - في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء ويجبوا مذاكيرهم " فإن كان هذا محفوظا احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبه، ويؤيد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه " قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم، فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها " يعني بسبب ذلك، لكن في عد عبد الله بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. قوله (يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية مسلم عن علقمة " في السر". قوله (كأنهم تقالوها) بتشديد اللام المضمومة أي استقلوها، وأصل تقالوها تقاللوها أي رأى كل منهم أنها قليلة. قوله (فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له) في رواية الحموي والكشميهني " قد غفر له " بضم أوله. والمعنى أن من لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل، بخلاف من حصل له، لكن قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشدهم خشية وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية، وأشار في حديث عائشة والمغيرة - كما تقدم في صلاة الليل - إلى معنى آخر بقوله " أفلا أكون عبدا شكورا". قوله (فقال أحدهم أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا) هو قيد لليل لا لأصلي، وقوله "فلا أتزوج أبدا " أكد المصلي ومعتزل النساء بالتأبيد ولم يؤكد الصيام لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد، ووقع في رواية مسلم " فقال بعضهم لا أتزوج النساء. وقال بعضهم لا آكل اللحم. وقال بعضهم لا أنام على الفراش، وظاهره مما يؤكد زيادة عدد القائلين. لأن ترك أكل اللحم أخص من مداومة الصيام، واستغراق الليل بالصلاة أخص من ترك النوم على الفراش. ويمكن التوفيق بضروب من التجوز. قوله (فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم) في رواية مسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا؟ ويجمع بأنه منع من ذلك عموما جهرا مع عدم تعيينهم وخصوصا فيما بينه وبينهم رفقا بهم وسترا لهم. قوله (أما والله) بتخفيف الميم حرف تنبيه بخلاف قوله في أول الخبر أما أنا فإنها بتشديد الميم للتقسيم. قوله (إني لأخشاكم لله وأتقاكم له) فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فاعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فأنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه، وقد أرشد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر " المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى، وتقدم في كتاب العلم شيء منه. قوله (لكنى) استدراك من شيء محذوف دل عليه السياق أي أنا وأنتم بالنسبة إلي العبودية سواء، لكن أنا أعمل كذا. قوله (فمن رغب عن سنتي فليس مني) المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. وقوله فليس مني إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فمعنى " فليس منى " أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى فليس مني ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر. وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه، وفيه تتبع أحول الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء، وأن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا. وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب. وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل. قال عياض هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى قلت: لا يدل ذلك لأحد الفريقين أن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحق إن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشبهات لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلي التنطع المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى وفي قوله إني لأخشاكم لله مع ما انضم إليه إشارة إلى ذلك، وفيه أيضا إشارة إلى أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا قَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ الشرح: قوله (حدثنا علي سمع حسان بن إبراهيم) لم أر عليا هذا منسوبا في شيء من الروايات، ولا نبه عليه أبو علي الغساني ولا نسبه أبو نعيم كعادته، لكن جزم المزي تبعا لأبي مسعود بأنه علي بن المديني، وكأن الحامل على ذلك شهرة علي بن المديني في شيوخ البخاري فإذا أطلق اسمه كان الحمل عليه أولى من غيره، وإلا فقد روى عن حسان - ممن يسمى عليا - علي بن حجر وهو من شيوخ البخاري أيضا، وكان حسان المذكور قاضي كرمان، ووثقه ابن معين وغيره، ولكن له أفراد، قال ابن عدي: هو من أهل الصدق إلا أنه ربما غلط. قلت: ولم أر له في البخاري شيئا انفرد به، وقد أدركه بالسن إلا أنه لم يلقه لأنه مات سنة ست ومائتين قبل أن يرتحل البخاري، وقد تقدم شرح الحديث المذكور فيه مستوفى في تفسير سورة النساء. *3* لِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وقع في رواية السرخسي " لأنه " والأول أولى لأنه بقية لفظ الحديث، وإن كان تصرف فيه فاختصر منه لفظ " منكم " وكأنه أشار إلى أن الشفاهي لا يخص، وهو كذلك اتفاقا، وإنما الخلاف هل يعم نصا أو استنباطا؟ ثم رأيته في الصيام أخرجه من وجه آخر عن الأعمش بلفظ " من استطاع الباءة " كما ترجم به ليس فيه " منكم". قوله (وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح) كأنه يشير إلى ما وقع بين ابن مسعود وعثمان، فعرض عليه عثمان فأجابه بالحديث، فاحتمل أن يكون لا أرب فيه له فلم يوافقه، واحتمل أن يكون وافقه وإن لم ينقل ذلك، ولعله رمز إلى ما بين العلماء فيمن لا يتوق إلى النكاح هل يندب إليه أم لا؟ وسأذكر ذلك بعد. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَوَا فَقَالَ عُثْمَانُ هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَلْقَمَةُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ الشرح: قوله (حدثني إبراهيم) هو النخعي، وهذا الإسناد مما ذكر أنه أصح الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وللأعمش في هذا الحديث إسناد آخر ذكره المصنف في الباب الذي يليه بإسناده بعينه إلى الأعمش. قوله (كنت مع عبد الله) يعني ابن مسعود. قوله (فلقيه عثمان بمنى) كذا وقع في أكثر الروايات. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عند ابن حبان " بالمدينة " وهي شاذة. قوله (فقال: يا أبا عبد الرحمن) هي كنية ابن مسعود، وظن ابن المنير أن المخاطب بذلك ابن عمر لأنها كنيته المشهورة، وأكد ذلك عنده أنه وقع في نسخته من " شرح ابن بطال " عقب الترجمة " فيه ابن عمر، لقيه عثمان بمنى " وقص الحديث. فكتب ابن المنير في حاشيته: هذا يدل على أن ابن عمر شدد على نفسه في زمن الشباب، لأنه كان في زمن عثمان شابا، كذا قال، ولا مدخل لابن عمر في هذه القصة أصلا، بل القصة والحديث لابن مسعود، مع أن دعوى أن ابن عمر كان شابا إذ ذاك فيه نظر لما سأبينه قريبا. فإنه كان إذ ذاك جاوز الثلاثين. قوله (فخليا) كذا للأكثر. وفي رواية الأصيلي " فخلوا " قال ابن التين: وهي الصواب، لأنه واوي يعني من الخلوة مثل " دعوا " قال الله تعالى ووقع في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم. " إذ لقيه عثمان فقال: هلم يا أبا عبد الرحمن، فاستخلاه". قوله (فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكرا تذكرك ما كنت تعهد) لعل عثمان رأى به قشفا ورثاثة هيئة فحمل ذلك على فقده الزوجة التي ترفهه، ووقع في رواية أبي معاوية عند أحمد ومسلم " ولعلها أن تذكر ما مضى من زمانك " وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم " لعلك يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد " وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان " لعلها أن تذكرك ما فاتك " ويؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس. قوله (فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي فقال: يا علقمة فانتهيت إليه وهو يقول أما لئن قلت ذلك لقد) هكذا عند الأكثر أن مراجعة عثمان لابن مسعود في أمر التزويج كانت قبل استدعائه لعلقمة. ووقع في رواية جرير عند مسلم وزيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان بالعكس، ولفظ جرير بعد قوله فاستخلاه " فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة قال لي: تعال يا علقمة، قال فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك " وفي رواية زيد " فلقي عثمان، فأخذ بيده فقاما، وتنحيت عنهما، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة يسرها قال: ادن يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: ألا نزوجك " ويحتمل في الجمع بين الروايتين أن يكون عثمان أعاد علي ابن مسعود ما كان قال له بعد أن استدعى علقمة، لكونه فهم منه إرادة إعلام علقمة بما كان فيه. قوله (لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب) في رواية زيد " لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا فقال لنا " وفي رواية عبد الرحمن بن يزيد في الباب الذي يليه " دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا، فقال لنا: يا معشر الشباب " وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم في هذه الطريق " قال عبد الرحمن وأنا يومئذ شاب، فحدث بحديث رأيت أنه حدث به من أجلي " وفي رواية وكيع عن الأعمش " وأنا أحدث القوم". قوله (يا معشر الشباب) المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب جمع شاب ويجمع أيضا على شببة وشبان بضم أوله والتثقيل، وذكر الأزهري أنه لم يجمع فاعل على فعال غيره، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. وقال القرطبي في " المفهم " يقال له حدث إلى ستة عشر سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل، وكذا ذكر الزمخشري في الشباب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين. وقال ابن شاس المالكي في " الجواهر " إلى أربعين. وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سمى شيخا، زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الأسفرايني عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة. قوله (من استطاع منكم الباءة) خص الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ. وإن كان المعنى معتبرا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضا. قوله (الباءة) بالهمز وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير همز ولا مد، وقد يهمز ويمد بلا هاء، ويقال لها أيضا الباهة كالأول لكن بهاء بدل الهمزة، وقيل بالمد القدرة على مؤن النكاح وبالقصر الوطء، قال الخطابي: المراد بالباءة النكاح، وأصله الموضع الذي يتبوؤه ويأوي إليه. وقال المازري: اشتق العقد على المرأة من أصل الباءة، لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يبوءها منزلا. وقال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح - فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا. والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله " ومن لم يستطع فعليه بالصوم " قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور انتهى. والتعليل المذكور للمازري. وأجاب عنه عياض بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله " من استطاع الباءة " أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج. ويكون قوله " ومن لم يستطع " أي من لم يقدر على التزويج. قلت: وتهيأ له هذا لحذف المفعول في المنفي، فيحتمل أن يكون المراد ومن لم يستطع الباءة أو من لم يستطع التزويج، وقد وقع كل منهما صريحا، فعند الترمذي في رواية عبد الرحمن بن يزيد من طريق الثوري عن الأعمش " ومن لم يستطع منكم الباءة " وعند الإسماعيلي من هذا الوجه من طريق أبي عوانة عن الأعمش " من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج " ويؤيده ما وقع في رواية للنسائي من طريق أبي معشر عن إبراهيم النخعي " من كان ذا طول فلينكح " ومثله لابن ماجه من حديث عائشة، وللبزار من حديث أنس وأما تعليل المازري فيعكر عليه قوله في الرواية الأخرى التي في الباب الذي يليه بلفظ " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا " فإنه يدل على أن المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج، والجواب عما استشكله المازري أنه يجوز أن يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء أو عدم شهوة أو عنة مثلا إلى ما يهيئ له استمرار تلك الحالة، لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى الجماع فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمر كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمر به الكسر المذكور، فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إليه ولهم اقتدار عليه فندبهم إلى التزويج دفعا للمحذور، بخلاف الآخرين فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم، لأن ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت في رواية عبد الرحمن بن يزيد وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئا، ويستفاد منه أن الذي لا يجد أهبة النكاح وهو تائق إليه يندب له التزويج دفعا للمحذور. قوله (فليتزوج) زاد في كتاب الصيام من طريق أبي حمزة عن الأعمش هنا " فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " وكذا ثبتت هذه الزيادة عند جميع من أخرج الحديث المذكور من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وكذا ثبت بإسناده الآخر في الباب الذي يليه، ويغلب على ظني أن حذفها من قبل حفص بن غياث شيخ شيخ البخاري. وإنما آثر البخاري روايته على رواية غيره لوقوع التصريح فيها من الأعمش بالتحديث، فاغتفر له اختصار المتن لهذه المصلحة. وقوله "أغض " أي أشد غضا " وأحصن " أي أشد إحصانا له ومنعا من الوقوع في الفاحشة. وما ألطف ما وقع لمسلم حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود هذا بيسير حديث جابر رفعه " إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه " فإن فيه إشارة إلى المراد من حديث الباب. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون أفعل على بابها، فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوية الداعية، وبعد حصول التزويج يضعف هذا العارض فيكون أغض وأحصن مما لم يكن، لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه من وجود الداعي. ويحتمل أن يكون أفعل فيه لغير المبالغة بل إخبار عن الواقع فقط. قوله (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) في رواية مغيرة عن إبراهيم عند الطبراني " ومن لم يقدر على ذلك فعليه بالصوم " قال المازري: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يغري الغائب، وقد جاء شاذا قول بعضهم عليه رجلا ليسني على جهة الإغراء. وتعقبه عياض بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزجاجي، ولكن فيه غلط من أوجه: أما أولا فمن التعبير بقوله لا إغراء بالغائب، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونص سيبويه أنه لا يجوز دونه زيدا ولا يجوز عليه زيدا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب فلا يجوز لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدالة على المراد. وأما ثانيا فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء وأن كانت صورته، فلم يرد القائل تبليغ الغائب وإنما أراد الإخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يرد أن يغريه به وإنما مراده دعني وكن كمن شغل عني. وأما ثالثا فليس في الحديث إغراء الغائب بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله " من استطاع منكم " فالخصاء في قوله " فعليه " ليست لغائب وإنما هي للحاضر المبهم، إذ لا يصح خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى - إلى أن قال - فمن عفي له من أخيه شيء) ومثله لو قلت لاثنين من قام منكما فله درهم فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائب ا ه ملخصا. وقد استحسنه القرطبي. وهو حسن بالغ، وقد تفطن له الطيبي فقال: قال أبو عبيد قوله فعليه بالصوم إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد تقول عليك زيدا ولا تقول عليه زيدا إلا في هذا الحديث، قال: وجوابه أنه لما كان الضمير الغائب راجعا إلى لفظة " من " وهي عبارة عن المخاطبين في قوله " يا معشر الشباب " وبيان لقوله " منكم " جاز قوله " عليه " لأنه بمنزلة الخطاب. وقد أجاب بعضهم بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحق مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردا هنا. قوله (بالصوم) عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة. قوله (فإنه) أي الصوم. قوله (له وجاء) بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما. ووقع في رواية ابن حبان المذكورة " فإنه له وجاء وهو الإخصاء " وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة هذه، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر. فإن الوجاء رض الأنثيين والإخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. وقال أبو عبيد قال بعضهم وجا بفتح الواو مقصور، والأول أكثر. وقال أبو زيد لا يقال وجاء إلا فيما لم يبرأ وكان قريب العهد بذلك. واستدل بهذا الحديث على أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج لأنه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه. وأطلق بعضهم أنه يكره في حقه. وقد قسم العلماء الرجل في الترويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب وبذلك قال أبو عوانة الأسفرايني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في " شرح مختصر الجويني " وجها، وهو قول داود وأتباعه. ورد عليهم عياض ومن تبعه بوجهين: أحدهما أن الآية التي احتجوا بها خيرت بين النكاح والتسري - يعني قوله تعالى الوجه الثاني أن الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرده لا يدفع مشقة التوقان قال: فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه، كذا قال، وقد صرح أكثر المخالفين بوجوب الوطء فاندفع الإيراد. وقال ابن بطال: احتج من لم يوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم "ومن لم يستطع فعليه بالصوم " قال: فلما كان الصوم الذي هو بدله ليس بواجب فمبدله مثله. وتعقب بأن الأمر بالصوم مرتب على عدم الاستطاعة ولا استحالة أن يقول القائل أوجبت عليك كذا فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا. والمشهور عن أحمد أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هبيرة. وقال المازري: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به. وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه. ونبه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبا. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري - وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال: فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به كما تقدم. قال والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة، وقيل الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصودا من كثر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك. والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع. ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظواهر الواردة في الترغيب فيه، قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله صلى الله عليه وسلم "فإني مكاثر بكم " ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا ينسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضا لعموم قوله " لا رهبانية في الإسلام". وقال الغزالي في الإحياء: من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح. قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، فأما حديث " فإني مكاثر بكم " فصح من حديث أنس بلفظ " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة " أخرجه ابن حبان، وذكره الشافعي بلاغا عن ابن عمر بلفظ " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم " وللبيهقي من حديث أبي إمامة " تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى " وورد " فإني مكاثر بكم " أيضا من حديث الصنابحي وابن الأعسر ومعقل بن يسار وسهل بن حنيف وحرملة بن النعمان وعائشة وعياض بن غنم ومعاوية بن حيدة وغيرهم، وأما حديث " لا رهبانية في الإسلام " فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني " إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة " وعن ابن عباس رفعه " لا صرورة في الإسلام " أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، وفي الباب حديث النهي عن التبتل وسيأتي في باب مفرد، وحديث " من موسرا فلم ينكح فليس منا " أخرجه الدارمي والبيهقي من حديث ابن أبا نجيح وجزم بأنه مرسل، وقد أورده البغوي في " معجم الصحابة " وحديث طاوس " قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وقد تقدم في الباب الأول الإشارة إلى حديث عائشة " النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني " وأخرج الحاكم من حديث أنس رفعه " من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني " وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف فمجموعها يدل على أن لما يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج أصلا، لكن في حق من يتأتى منه النسل كما تقدم، والله أعلم. وفي الحديث أيضا إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم، لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه، واستدل به الخطابي على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في " شرح السنة"، وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالة لأنه قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاه فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا، واستدل به الخطابي أيضا على أن المقصود من النكاح الوطء ولهذا شرع الخيار في العنة. وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن وعدم التكليف بغير المستطاع، ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع بل هي دائرة معها، واستنبط القرافي من قوله " فإنه له وجاء " أن التشريك في العبادة لا يقدح فيها بخلاف الرياء، لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة وهو بهذا القصد صحيح مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه لتحصيل غض البصر وكف الفرج عن الوقوع في المحرم ا ه. فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى فهو كذلك وليس محل النزاع. وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح فليس في الحديث ما يساعده. واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل. وتعقب دعوى كونه أسهل لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة، وفي قول عثمان لابن مسعود " ألا نزوجك شابة " استحباب نكاح الشابة ولا سيما إن كانت بكرا، وسيأتي بسط القول فيه بعد أبواب. *3* الشرح: قوله (باب من لم يستطع الباءة فليصم) أورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله، وهذا اللفظ ورد في رواية الثوري عن الأعمش في حديث الباب، فعند الترمذي عنه بلفظ " فمن لم يستطع الباءة فعليه بالصوم " وعند النسائي عنه بلفظ " ومن لا فليصم " وقد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ الشرح: قوله (باب من لم يستطع الباءة فليصم) أورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله، وهذا اللفظ ورد في رواية الثوري عن الأعمش في حديث الباب، فعند الترمذي عنه بلفظ " فمن لم يستطع الباءة فعليه بالصوم " وعند النسائي عنه بلفظ " ومن لا فليصم " وقد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله. الشرح: قوله (باب كثرة النساء) يعني لمن قدر على العدل بينهن، ذكر فيه ثلاثة أحاديث. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلَا تُزَعْزِعُوهَا وَلَا تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ الشرح: حديث عطاء قال " حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة " زاد مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج " زوج النبي صلى الله عليه وسلم". قوله (بسرف) بفتح المهملة وكسر الراء بعدها فاء: مكان معروف بظاهر مكة، تقدم بيانه في الحج. وأخرج ابن سعد بإسناد صحيح عن يزيد بن الأصم قال " دفنا ميمونة بسرف في الظلة التي بنى بها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن وجه آخر عن يزيد بن الأصم قال " صلى عليها ابن عباس، ونزل في قبرها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد". قلت: وهي خالة أبيه " وعبيد الله الخولاني". قلت: وكان في حجرها " ويزيد بن الأصم". قلت: وهي خالته كما هي خالة ابن عباس. قوله (فإذا رفعتم نعشها) بعين مهملة وشين معجمة: السرير الذي يوضع عليه الميت. قوله (فلا تزعزعوها) بزاءين معجمتين وعينين مهملتين، والزعزعة تحريك الشيء الذي يرفع. وقوله "ولا تزلزلوها " الزلزلة الاضطراب. قوله (وارفقوا) إشارة إلى أن مراده السير الوسط المعتدل، ويستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته، وفيه حديث " كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا " أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان. قوله (فإنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة) أي عند موته، وهن سودة وعائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وأم حبيبة وجويرية وصفية وميمونة. هذا ترتيب تزويجه إياهن رضي الله عنهن، ومات وهن في عصمته. واختلف في ريحانة هل كانت زوجة أو سرية، وهل ماتت قبله أو لا؟ قوله (كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة) زاد مسلم في روايته " قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب " قال عياض قال الطحاوي: هذا وهم وصوابه سودة كما تقدم أنها وهبت يومها لعائشة. وإنما غلط فيه ابن جريج راويه عن عطاء كذا قال، قال عياض: قد ذكروا في قوله تعالى (ترجى من تشاء منهن) أنه آوى عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة فكان يستوفى لهن القسم، وأرجأ سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية فكان يقسم لهن ما شاء، قال: فيحتمل أن تكون رواية ابن جريج صحيحة ويكون ذلك في آخر أمره حيث آوى الجميع فكان يقسم لجميعهن إلا لصفية. قلت: قد أخرج ابن سعد من ثلاثة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم لصفية كما يقسم لنسائه، لكن في الأسانيد الثلاثة الواقدي وليس بحجة. وقد تعصب مغلطاي للواقدي فنقل كلام من قواه ووثقه وسكت عن ذكر من وهاه واتهمه وهم أكثر عددا وأشد إتقانا وأقوى معرفة به من الأولين، ومن جملة ما قواه به أن الشافعي روى عنه. وقد أسند البيهقي عن الشافعي أنه كذبه، ولا يقال فكيف روى عنه لأنا نقول: رواية العدل ليست بمجردها توثيقا، فقد روى أبو حنيفة عن جابر الجعفي وثبت عنه أنه قال: ما رأيت أكذب منه، فيترجح أن مراد ابن عباس بالتي لا يقسم لها سودة كما قاله الطحاوي، لحديث عائشة " إن سودة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة " وسيأتي في باب مفرد وهو قبل كتاب الطلاق بأربعة وعشرين بابا ويأتي بسط القصة هناك إن شاء الله تعالى، لكن يحتمل أن يقال لا يلزم من أنه كان لا يبيت عند سودة أن لا يقسم لها، بل كان يقسم لها لكن يبيت عند عائشة لما وقع من تلك الهبة. نعم يجوز نفي القسم عنها مجازا، والراجح عندي ما ثبت في الصحيح، ولعل البخاري حذف هذه الزيادة عمدا. وقد وقع عند مسلم أيضا فيه زيادة أخرى من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج، قال عطاء: وكانت آخرهن موتا ماتت بالمدينة. كذا قال، فأما كونها آخرهن موتا فقد وافق عليه ابن سعد وغيره قالوا: وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وخالفهم آخرون فقالوا: ماتت سنة ست وخمسين، ويعكر عليه أن أم سلمة عاشت إلى قتل الحسين بن علي وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وقيل بل ماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، والأول أرجح. ويحتمل أن تكونا ماتتا في سنة واحدة لكن تأخرت ميمونة. وقد قيل أيضا إنها ماتت سنة ثلاث وستين وقيل، سنة ست وستين، وعلى هذا لا ترديد في آخريتها في ذلك. وأما قوله: وماتت بالمدينة، فقد تكلم عليه عياض فقال: ظاهره أنه أراد ميمونة، كيف يلتئم مع قوله في أول الحديث إنها ماتت بسرف، وسرف من مكة بلا خلاف، فيكون قوله بالمدينة وهما. قلت: يحتمل أن يريد بالمدينة البلد وهي مكة. والذي في أول الحديث أنهم حضروا جنازتها بسرف، ولا يلزم من ذلك أنها ماتت بسرف فيحتمل أن تكون ماتت داخل مكة وأوصت أن تدفن بالمكان الذي دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فنفذ ابن عباس وصيتها، ويؤيد ذلك أن ابن سعد لما ذكر حديث ابن جريج هذا قال بعده: وقال غير ابن جريج في هذا الحديث توفيت بمكة فحملها ابن عباس حتى دفنها بسرف. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: حديث أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة بغسل واحد وله تسع نسوة " وتقدم شرحه في كتاب الغسل، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد اتفق العلماء على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن، واختلفوا هل للزيادة انتهاء أو لا، وفيه دلالة على أن القسم لم يكن واجبا عليه. وسيأتي البحث فيه في بابه. وقوله "وقال لي خليفة إلخ " قصد به بيان تصريح قتادة بتحديث أنس له بذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ رَقَبَةَ عَنْ طَلْحَةَ الْيَامِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ قُلْتُ لَا قَالَ فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً الشرح: قوله (حدثنا علي بن الحكم الأنصاري) هو المروزي، مات سنة ست وعشرين. قوله (عن رقبة) بفتح القاف والموحدة هو ابن مصقلة بصاد مهملة ساكنة ثم قاف ويقال بالسين المهملة بدل الصاد، وطلحة هو ابن مصرف اليامي بتحتانية مخففا. قوله (قال لي ابن عباس هل تزوجت؟ قلت لا) زاد فيه أحمد بن منيع في مسنده من طريق أخرى عن سعيد بن جبير " قال لي ابن عباس وذلك قبل أن يخرج وجهي - أي قبل أن يلتحي - هل تزوجت؟ قلت لا، وما أريد ذلك يومي هذا " وفي رواية سعيد بن منصور من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير " قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت ما ذاك في " الحديث. قوله (فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء) قيد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان عليه السلام، فإنه كان أكثر نساء كما تقدم في ترجمته، وكذلك أبوه داود، ووقع عند الطبراني من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " تزوجوا فإن خيرنا كان أكثرنا نساء " قيل المعنى خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأمة أخصاء أصحابه؛ وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحا ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره، وكان مع كونه أخشى الناس لله وأعلمهم به يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة لكونه كان لا يجد ما يشبع به من القوت غالبا، وإن وجد كان يؤثر بأكثره، ويصوم كثيرا ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، ولا يطاق ذلك إلا مع قوة البدن، وقوة البدن كما تقدم في أول أحاديث الباب تابعة لما يقوم به من استعمال المقويات من مأكول ومشروب، وهي عنده نادرة أو معدومة. ووقع في " الشفاء " أن العرب كانت تمدح بكثرة النكاح لدلالته على الرجولية، إلى أن قال: ولم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن وقيامه بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن وكأنه أراد بالتحصين قصر طرفهن عليه فلا يتطلعن إلى غيره، بخلاف العزبة فإن العفيفة تتطلع بالطبع البشري إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهن. والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه تقدمت الإشارة إلى بعضها. أحدها أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك. ثانيها لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم. ثالثها للزيادة في تألفهم لذلك. رابعها للزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ. خامسها لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزاد أعوانه على من يحاربه. سادسها نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله. سابعها الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة وأبوها إذ ذاك يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن. ثامنها ما تقدم مبسوطا من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم. تاسعها وعاشرها ما تقدم نقله عن صاحب " الشفاء " من تحصينهن والقيام بحقوقهن، والله أعلم. ووقع عند أحمد بن منيع من الزيادة في آخره " أما أنه يستخرج من صلبك من كان مستودعا " وفي الحديث الحض على التزوج وترك الرهبانية.
|