الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} قوله تعالى: {ويَسْئَلونك عن اليتامى} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أنه لما أنزل الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إِلا بالتي هي أحسن} [الاسراء: 34]. و{إِن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} [النساء: 9] انطلق من كان عنده مال يتيم، فعزل طعامه من طعامِه، وشرابه من شرابِه، فجعل يفضل الشيء من طعامِه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته، ولا يستخدمون له خادماً، فسألوا النبي، صلى الله عليه وسلم، عن مخالطتهم، فنزلت هذه الآية، ذكره السدي عن أشياخه، وهو قول الضحاك. وفي السائلين للنبي، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك قولان. أحدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري، قاله مقاتل. والثاني: عبد الله بن رواحة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {قل إِصلاح لهم خيرٌ} قال ابن قتيبة: معناه: تثمير أموالهم، والتنزه عن أكلها لمن وليها خير. {وإِن تخالطوهم فاخوانُكم} أي: فهم إخوانكم، حُكمهم في ذلك حكم إخوانكم. قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك، وتشرب من لبنه، ويأكل في قصعتك، وتأكل في قصعته. {والله يعلم المفسد من المصلح} يريد: المتعمد. أكل مال اليتيم، من المتحرّج الذي لا يألو إلا الإصلاح. {ولو شاء الله لأعنتكم} قال ابن عباس: أي: لأحرجكم، ولضيّق عليكم. وقال ابن الأنباري: أصل العنت: التشديد. تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً ويعنته، أي: يشدد عليه، ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه [قال: ثم نقلت إلى معنى الهلاك] واشتقاق الحرف، من قول العرب: أكمة عنوت: إذا كانت شديدة شاقة [المصعد] فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدة.
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} قوله تعالى: {ولا تَنكِحوا المشركات حتى يؤمنَّ} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن رجلاً يقال له: مرثد بن أبي مرثد بعثه النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد: ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن شئتِ تزوجتكِ، إذا رجعت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استأذنته في ذلك، فقالت له: أبي تتبرَّم؟ واستغاثت عليه، فضربوه ضرباً شديداً، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فسأله: أتحلُّ لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي. والثاني: " أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرها؛ [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هي يا عبد الله»؟] فقال: يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إِله إِلا الله، وأنك رسول الله. فقال: «يا عبد الله: هذه مؤمنة» فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين وقالوا: أنكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن "، فنزلت هذه الآية. رواه السدي عن أشياخه. وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبا مرثد كانت سبباً لنزول قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ} وقصة ابن رواحة كانت سبباً لنزول قوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة}. فأما التفسير، فقال المفضَّل: أصل النكاح: الجماع، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد: نكاح. وقد حرم الله عز وجل نكاح المشركات عقداً ووطءاً. وفي «المشركات» هاهنا قولان. أحدهما: أنه يعُم الكتابيات وغيرهن، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه خاص في الوثنيات، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وقتادة. وفي المراد بالأمة قولان. أحدهما: أنها المملوكة، وهو قول الأكثرين، فيكون المعنى: ولَنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة. والثاني: أنها المرأة، وإن لم تكن مملوكة، كما يقال: هذه أمة الله، وهذا قول الضحاك، والأول أصح. وفي قوله: {ولو أعجبتكم} قولان. أحدهما: بجمالها وحسنها. والثاني: بحسبها ونسبها. فصل اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات: هي محكمة، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله، وإن جحدوا بنبوة نبينا. قال شيخنا: وهو قولٌ فاسد من وجهين. أحدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. والثاني: أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به ليس من عند الله، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك. فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات، فلهم في ذلك قولان. أحدهما: أن بعض حكمها منسوخ بقوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 6]. وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكماً. والثاني: أنها ليست، منسوخة، ولا ناسخة، بل هي عامة في جميع المشركات، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة؛ فلدليل خاص، وهو قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 6]. فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ، وعلى هذا عامة الفقهاء. وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وطلحة، وحذيفة، وجابر، وابن عباس. قوله تعالى: {ولا تُنكِحوا المشركين} أي: لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا؛ والكلام في قوله تعالى: {ولعبد مؤمن} وفي قوله تعالى: {ولو أعجبكم} مثل الكلام في أول الآية. قوله تعالى: {والله يدعوا إِلى الجنة والمغفرة باذنه}؛ قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ الحسن، والقزاز، عن أبي عمرو، برفعها.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض} روى ثابت عن أنس قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح. وقال ابن عباس: جاء رجل يقال له: ابن الدحداحة، من الأنصار، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية. وفي المحيض قولان. أحدهما: أنه اسم للحيض، قال الزجاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً. وقال ابن قتيبة: المحيض: الحيض. والثاني: أنه اسم لموضع الحيض، كالمقيل، فإنه موضع القيلولة، والمبيت موضع البيتوتة. وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد. فأما أرباب القول الأول؛ فأكدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم، وهو أنه وصفه بالأذى، وذلك صفة لتفسير الحيض، لا لمكانه. وأما أرباب القول الثاني، فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة للموضع، ثم وصفه بما قاربه، وجاوره، كالعقيقة، فإنها اسم لشعر الصبي، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازاً. والراوية: اسم للجمل، وسميت المزادة راوية مجازاً، والأذى يحصل للواطئ بالنجاسة، ونتن الريح، وقيل: يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم: {فاعتزلوا النساء في المحيض} المراد به اعتزال الوطء في الفرج، لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج. {ولا تقربوهن} أي: لا تقربوا جماعهن، وهو تأكيد لقوله: {فاعتزلوا النساء}. قوله تعالى: {حتى يَطْهُرْنَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، عن عاصم {حتى يطهرن} خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر، عن عاصم {يطَّهّرن} بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. قال ابن قتيبة: يطهرن: ينقطع عنهن الدم، يقال: طهُرت المرأة وطهَرت: إذا رأت الطهر، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ «يطَّهَّرن» بالتشديد أراد: يغتسلن بالماء. والأصل يتطهرن، فأدغمت التاء في الطاء. قال ابن عباس، ومجاهد: حتى يطهرن من الدم، فاذا تطهرن اغتسلن بالماء. قوله تعالى: {فأتوهن} إباحة من حظر، لا على الوجوب. قوله تعالى: {من حيث أمركم الله} فيه أربعة أقوال. أحدها: أن معناه: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض، قاله ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أن معناه: فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه، وهو محل الحيض، قاله مجاهد. وقال من نصر هذا القول: إنما قال: {أمركم الله} والمعنى نهاكم، لأن النهي أمر بترك المنهي عنه و«من» بمعنى «في» كقوله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]. والثالث: فأتوهن من قبل التزويج الحلال، لا من قبل الفجور، قاله ابن الحنفية. والرابع: أن معناه: فأتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو معتكفات أو محرمات. وهذا قول الزجاج، وابن كيسان. وفي قوله تعالى: {إِن الله يحب التوابين} قولان. أحدهما: التوابين من الذنوب، قاله عطاء، ومجاهد، في آخرين. والثاني: التوابين من إتيان الحيض ذكره بعض المفسرين. وفي قوله تعالى: {ويحب المتطهرين} ثلاثة أقوال. أحدها: المتطهرين من الذنوب، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية. والثاني: المتطهرين بالماء، قاله عطاء. والثالث: المتطهرين من إتيان أدبار النساء. روي عن مجاهد. فصل أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية: يوم. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وقال مالك وداود: ليس لأقله حد. وفي أكثره روايتان عن أحمد: إحداهما: خمسة عشر يوماً، وهو قول مالك والشافعي. والثانية: سبعة عشر يوماً. وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام. والحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصوم دون وجوبه، والجلوس في المسجد، والاعتكاف، والطواف، وقراءة القرآن، وحمل المصحف، والاستمتاع فى الفرج، وحصول نية الطلاق.
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة، فنزلت هذه الآية. روي عن جابر، والحسن، وقتادة. والثاني: أن حياً من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة، تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا ذلك، فأنكرنه، وانتهى الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، حولت رحلي الليلة، فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، والحرث: المزدرع، وكنى به هاهنا عن الجماع،. فسماهن حرثاً، لأنهن مزدرع الأولاد، كالأرض للزرع، فان قيل: النساء جمع، فلم لم يقل: حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرها ابن القاسم الأنباري النحوي. أحدها: أن يكون الحرث مصدراً في موضع الجمع، فلزمه التوحيد، كما تقول العرب: إخوتك صوم، وأولادك فطر، يريدون: صائمين ومفطرين، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع. والثاني: أن يكون أراد: حروث لكم، فاكتفى بالواحد من الجمع، كما قال الشاعر: كلوا في نصف بطنكُم تعيشوا *** أي: في أنصاف بطونكم. والثالث: أنه إنما وحَّد الحرث، لأن النساء شبهن به، ولسن من جنسه، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم. قوله تعالى: {أنى شئتم} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه بمعنى: كيف شئتم، ثم فيه قولان. أحدهما: أن المعنى: كيف شئتم، مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطية، والسدي، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنها نزلت في العزل. قاله سعيد بن المسيب، فيكون المعنى: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. والقول الثاني: أنه بمعنى إن شئتم، ومتى شئتم، وهو قول ابن الحنفية والضحاك، وروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنه بمعنى: حيث شئتم، وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس، وهو فاسِد من وجوه، أحدها: أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعاً تحدث بذلك عن ابن عمر، قال: كذب العبد، إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهن من أدبارهن. وأما أصحاب مالك، فانهم ينكرون صحته عن مالك، والثاني: أن أبا هريرة روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ملعون من أتى النساء في أدبارهن» فدل على أن الآية لا يراد بها هذا. والثالث: أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله: {فأتوا حرثكم} وموضع الزرع: هو مكان الولد، قال ابن الأنباري: لما نصَّ الله على ذكر الحرث، والحرث به يكون النبات، والولد مشبَّه بالنبات؛ لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد. والرابع: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه. قوله تعالى: {وقدّموا لأنفسكم} فيه أربعة أقوال. أحدها: أن معناه: وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وقدموا التسمية عند الجماع، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: وقدموا لأنفسكم في طلب الولد، قاله مقاتل. والرابع: وقدّموا طاعة الله واتباع أمره، قاله الزجاج.
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عُرضة لأيْمانكم} في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، كان بينه وبين ختنه شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه، وجعل يقول: قد حلفت بالله، فلا يحل لي، إلا أن تبرّ يميني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف، لا ينفق على مسطح، قاله ابن جريج. والرابع: نزلت في أبي بكر، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، قاله المقاتلان: ابن حيان، وابن سليمان. قال الفراء: والمعنى: ولا تجعلوا الله مُعترضاً لأيمانكم. وقال أبو عبيد: نصباً لأيمانكم، كأنه يعني: أنكم تعترضونه في كل شيء، فتحلفون به. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال. أحدها: أن معناها: لا تحلفوا بالله أن لا تبرّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن جبير، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أن معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرّوهم، وتصلحوا بينهم بالكذب، روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس. والثالث: أن معناها: لا تكثروا الحلف بالله، وإن كنتم بارّين مصلحين، فان كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه. هذا قول ابن زيد.
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيْمانكم} قال الزجاج: اللغو في كلام العرب: ما أطُّرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمى ما لا يعتد به لغواً. وقال ابن فارس: اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعتد [به] من أولاد الإبل في الدية وغيرها لغواً، يقال منه: لغا يلغو، وتقول: لغي بالأمر: إذا لهِج به. وقيل: إن اشتقاق اللغة منه [أي: يلهج صاحبها بها]. وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال. أحدها: أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف، ثم يتبين له أنه بخلافه. وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي عن أشياخه، ومالك، ومقاتل. والثاني: أنه: لا والله، وبلى والله، من غير قصد لعقد اليمين، وهو قول عائشة، وطاووس، وعروة، والنخعي، والشافعي واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسَبت قلوبكم} وكسب القلب: عقده وقصده، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد، روى عنه ابنه عبد الله أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين، يرى أنها كذلك، ولا كفارة. والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء، فلا كفارة. والثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان، رواه طاووس عن ابن عباس. والرابع: أنه حلف الرجل على معصية، فليحنث، وليكفِّر، ولا إثم عليه. قاله سعيد بن جبير. والخامس: أن يحلف الرجل على شيء، ثم ينساه. قاله النخعي. وقول عائشة أصح الجميع. قال حنبل: سئل أحمد عن اللغو فقال: الرجل يحلف فيقول: لا والله، وبلى والله، لا يريد عقد اليمين، فاذا عقد على اليمين لزمته الكفارة. قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كَسَبَتْ قلوبكم والله غفور حليم} قال مجاهد: أي: ما عقدت عليه قلوبكم، «والحليم»: ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب، فيعجل، ولا يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة. قال أبو سليمان الخطابي: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة، إنما الحليم الصفوح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. وقد أنعم بعض الشعراء أبياتاً في هذا المعنى فقال: لا يدرك المجدَ أقوامٌ وإِن كرموا *** حتى يذلّوا وإِن عزّوا لأقوام ويُشْتَموا فترى الألوانَ مسفرةً *** لا صفح ذلٍ ولكن صفحَ أحلام قال: ويقال: حَلم الرجل يحلمُ حُلُما بضم اللام في الماضي والمستقبل. وحلَم في النوم، بفتح اللام، يحلم حُلماً، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضموتان. فصل الأيمان على ضربين، ماضٍ ومستقبل، فالماضي على ضربين: يمين محرمة، وهي: اليمين الكاذبة، وهي أن يقول: والله ما فعلت، وقد فعل. أو: لقد فعلت، وما فعل. ويمين مباحة، وهي أن يكون صادقاً في قوله: ما فعلت. أو: لقد فعلت. والمستقبلة على خمسة أقسام. أحدها: يمين عقدُها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل أن يحلف: لأصلينَّ الخمس، ولأصومنَّ رمضان، أو: لاشربت الخمر. والثاني: عقدها معصية، والمقام عليها معصية، وحلها طاعة، وهي عكس الأولى. والثالث: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها مكروه، مثل أن يحلف: ليَفعلنّ النوافل من العبادات. والرابع: يمين عقدها مكروه، والمقام عليها مكروه، وحلها طاعة، وهي عكس التي قبلها. والخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، وحلها مباح. مثل أن يحلف: لادخلت بلداً فيه من يظلم الناس، ولا سلكت طريقاً مخوفاً، ونحو ذلك.
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئاً، فأبت أن تعطيه؛ حلف أن لا يقربها السنة، والسنتين، والثلاث، فيدعها لا أيّماً، ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام، جعل الله ذلك أربعة أشهر، فأنزل الله هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. قال ابن قتيبة: يؤلون، أي: يحلفون. يقال: آليت من امرأتي، أولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها. والاسم: الأليَّة. وقال الزجاج: يقال من الإيلاء: آليت أولي إيلاء، وأليَّة، وأُلْوةً وأَلْوَةً وإِلْوَةً، وهي بالكسر أقل اللغات، قال كثير: قيل الألايا حافظٌ ليمينه *** وإِن بدرت منه الأليَّة برَّت وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: «من» بمعنى: «في» أو: «على» والتقدير: يحلفون على وطء نسائهم، فحذف الوطء، وأقام النساء مقامه، كقوله تعالى: {ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران: 194]. أي: على ألسنة رسلك. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يؤلون، يعتزلون من نسائهم. والتربص: الانتظار. ولا يكون مؤلياً إلا إذا حلف بالله أن لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون ذلك، لم يكم مؤلياً. وهذا قول مالك، وأحمد، والشافعي. وفاؤوا: رجعوا، ومعناه: رجعوا إلى الجماع. قاله عليّ، وابن عباس، وابن جبير، ومسروق، والشعبي. وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع، فإنه يقول: متى قدرت جامعتها، فيكون ذلك من قوله فيئة؛ فمتى قدر فلم يفعل، أمر بالطلاق، فان لم يطلق، طلق الحاكم عليه. قوله تعالى: {فإن الله غفور رحيم} قال عليّ، وابن عباس: غفور لإثم اليمين.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} أي: حققوه. وفي عزم الطلاق قولان. أحدهما: أنه إذا مضت الأربعة الأشهر استحق عليه أن يفيء، أو يطلق، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعائشة، وطاووس، ومجاهد، والحكم، وأبي صالح. وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلاً من الصحابة، وهو قول مالك، وأحمد، والشافعي. والثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر، فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق. واختلف أرباب هذا القول فيما يلحقها من الطلاق على قولين. أحدهما: طلقة بائنة. روي عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب. والثاني: طلقة رجعية، روي عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة. قوله تعالى: {فإن الله سميع عليم} فيه قولان. أحدهما: سميع لطلاقه، عليم بنيته. والثاني: سميع ليمينه، عليم بها.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} سبب نزولها: أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها، قالت: أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها، وإن كانت حبلى وهي كارهة، قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على مراجعتها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا. فنزل قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} [الطلاق: 1]. ثم نزلت: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما التفسير؛ فالطلاق: التخلية. قال ابن الأنباري: هي من قول العرب: أطلقت الناقة، فطلقت: إذا كانت مشدودة، فأزلت الشد عنها، وخليتها، فشبه ما يقع للمرأة بذلك، لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل، وكانت الأسباب كالشد لها، فلما طلقها قطع الأسباب، ويقال طلقت المرأة، وطُلّقت وقال غيره: الطلاق: من أطلقت الشيء من يدي، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بينهما، ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات. وأما القروء: فيراد بها: الأطهار، ويراد بها الحيض. يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت. قال النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: «تقعد أيام أقرائها» يريد أيام حيضها. وقال الأعشى: وفي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لأقصاها غريم عزائكا مُورِّثةٍ مالاً، وفي الحي رفعةً *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا أراد بالقروء: الأطهار، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن. واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين. أحدهما: أن أصله الوقت، يقال: رجع فلان لقرئه أي: لوقته الذي كان يرجع فيه، [ورجع لقارئه أيضاً] قال الهذلي: كرهت العقر عقر بني شليل *** إذا هبت لقارئها الرياح فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت، هذا قول ابن قتيبة. والثاني: أن أصله الجمع. وقولهم: قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعاً. والقرء: اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الطهر، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن، هذا قول الزجاج. واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين. أحدهما: أنها الحيض. روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعكرمة، والضحاك والسدي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه فانه قال: قد كنت أقول: القروء: الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض. والثاني: أنها الأطهار. روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والزهري، وأبان بن عثمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأومأ إليه أحمد. ولفظ قوله تعالى {والمطلقات يتربصن} لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، كقوله تعالى: {والوالداتُ يُرضعنَ أولادهن حولين كاملين} وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى: {فليمدد له الرحمن مدا} [مريم: 75]. والمراد بالمطلقات في هذه الآية، البالغات، المدخول بهن غير الحوامل. قوله تعالى: {ولا يحل لهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنَّ} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الحمل، قاله عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الحيض، قاله عكرمة، وعطية، والنخعي، والزهري. والثالث: الحمل والحيض، قاله ابن عمر، وابن زيد. قوله تعالى: {إِن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر} خرِّج مخرج الوعيد لهن والتوكيد، قال الزجاج: وهو كما تقول للرجل: إن كنت مؤمناً فلا تظلم. وفي سبب وعيدهم بذلك قولان. أحدهما: أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة قاله ابن عباس. والثاني: لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، قاله قتادة. وقيل: كانت المرأة إذا رغبت في زوجها، قالت: إني حائض، وقد طهرت. وإذا زهدت فيه، كتمت حيضها حتى تغتسل، فتفوته. والبعولة: الأزواج، و«ذلك»: إشارة إلى العدة. قاله مجاهد، والنخعي، وقتادة في آخرين. وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله، ولا يوجب تخصيصه، لأن قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن}. عام في المبتوتات والرجعيات، وقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} خاص في الرجعيات. قوله تعالى: {إن أرادوا إصلاحاً} قيل: إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته، طلقها واحدة وتركها، فاذا قارب انقضاء عدتها راجعها، ثم تركها مدّة، ثم طلقها، فنهوا عن ذلك. وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها، غير أنه قد دل قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} على صحة الرجعة وإن قصد الضرار، لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار؛ لما كان ظالماً بفعلها. قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} وهو: المعاشرة الحسنة، والصحبة الجميلة. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه سئل عن حق المرأة على الزوج، فقال: «أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت " وقال ابن عباس إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي، لهذه الآية. قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال. وقال مجاهد: بالجهاد والميراث. وقال أبو مالك: يطلقها، وليس لها من الأمر شيء. وقال الزجاج: تنال منه من اللذة كما ينال منها، وله الفضل بنفقته. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " وقالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم. فصل اختلف العلماء في هذه الآية: هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين. أحدهما: أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها، فقال قوم: المنسوخ منها قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلُهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]. وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فمالكم عليهن من عدة تعتدُّونها} [الطلاق: 1]. وهذا مروي عن ابن عباس، والضحاك في آخرين. وقال قوم: أولها محكم، والمنسوخ قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} قالوا: كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها، سواء كان الطلاق ثلاثاً، أو دون ذلك، فنسخ بقوله تعالى: {فان طلقها فلا تحل له من بعدُ حتى تنكح زوجاً غيره} والقول الثاني: أن الآية كلها محكمة، فأولها عام. والآيات الواردة في العدد، خصت ذلك من العموم، وليس بنسخ. وأما ما قيل في الارتجاع، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} أي: في العدة قبل انقضاء القروء الثلاثة، وهذا القول هو الصحيح.
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} قوله تعالى: {الطلاق مرتان} سبب نزولها، أن الرجل كان يطلق امرأته، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه، فقال رجل من الأنصار لامرأته: والله لا أؤيك إليَّ أبداً ولا أدعك تحلِّين مني. فقالت: كيف ذلك؟ قال: أطلقك، فاذا دنا أجلك، راجعتك، فذهبتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تشكو إليه ذلك، فنزلت هذه الآية، فاستقبلها الناس [جديداً] من كان طلق، ومن لم يكن طلق. رواه هشام بن عروة عن أبيه. فأما التفسير، ففي قوله تعالى: {الطلاق مرتان} قولان. أحدهما: أنه بيان لسنَّة الطلاق، وأن يوقع في كل قرءٍ طلقة، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه بيان للطلاق الذي يملك معه الرجعة، قاله عروة، وقتادة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. قوله تعالى: {فإمساك بمعروف} معناه: فالواجب عليكم إمساك بمعروف، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة. وقال عطاء، ومجاهد، والضحاك، والسدي: المراد بقوله تعالى: {فإمساك بمعروف}: الرجعة بعد الثانية. وفي قوله تعالى: {أو تسريح بإحسان} قولان. أحدهما: أن المراد به: الطلقة الثالثة، قاله عطاء، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها، قاله الضحاك، والسدي. قال: القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: وهذا هو الصحيح، أنه قال عقيب الآية: {فان طلقها فلا تحل له من بعدُ حتى تنكح زوجاً غيره} والمراد بهذه الطلقة: الثالثة بلا شك، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى: {أو تسريح باحسان} على تركها حتى تنقضي عدتها، لأنه إن حمل على الثالثة، وجب أن يحمل قوله تعالى: {فان طلقها} على رابعة، وهذا لا يجوز. فصل الطلاق على أربعة أضرب: واجب، ومندوب إليه، ومحظور، ومكروه. فالواجب: طلاق المؤلي بعد التربص، إذا لم يفئ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين، إذا رأيا الفرقة. والمندوب: إذا لم يتفقا، واشتدَّ الشقاق بينهما، ليتخلصا من الإثم. والمحظور: في الحيض، إذا كانت مدخولاً بها، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر. والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة، وكل واحد منهما قيم بحق صاحبه. قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} " نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، أتت زوجته إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني [أكره الكفر في الإسلام] لا أطيقه بغضاً. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردّين عليه حديقته؟». قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، أن يأخذها، ولا يزداد " رواه عكرمة عن ابن عباس واختلفوا في اسم زوجته، فقال ابن عباس: جميلة. ونسبها يحيى ابن أبي كثير، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكناها مقاتل، فقال: أم حبيبة بنت عبد الله ابن أبيّ. وقال آخرون: إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ. وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين. إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل. والثانية: سهلة بنت حبيب. وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام. والخوف في الآية بمعنى: العلم: قال أبو عبيد: معنى قوله: {ألاّ يخافا}: يوقنا. والحدود قد سبق بيان معناها. ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لا متناعها عن طاعته؛ جاز له أن يأخذ منها الفدية، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» {يخافا} وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو جعفر، وحمزة والأعمش {يُخافا} بضم الياء. قوله تعالى: {فإن خفتم} قال قتادة: هو خطاب للولاة {فلا جناح عليهما} على المرأة {فيما افتدت به} وعلى الزوج فيما أخذ، لأنه ثمن حقّه. وقال الفراء: يجوز أن يراد الزوج وحده، وإن كانا قد ذكرا جميعاً، كقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22]. وإنما يخرج من أحدهما. وقوله: {نسيا حوتهما} [الكهف: 61] وإنما نسي أحدهما. فصل وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان. أحدهما: يجوز، وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي، والضحاك، ومالك، والشافعي. والثاني: لا يجوز، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والشعبي، وطاووس، وابن جبير، والزهري، وأحمد بن حنبل، وقد نقل عن عليّ، والحسن أيضاً. وهل يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وطاووس، وشريح، والزهري: يجوز، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن، وابن سيرين، وقتادة: لا يجوز إلا عند السلطان.
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} قوله تعالى: {فان طلقها فلا تحلُّ له من بعدُ حتى تنكح زَوجاً غيرَهُ} ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النضيري، وقي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي. وقال غير مقاتل: " إنها عائشة بن عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، ثم طلقها، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فأبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال «أتريدين: أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» " قوله تعالى: {فان طلقها} يعني: الزوج المطلق مرتين. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هي الطلقة الثالثة. واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق. قوله تعالى: {فان طلقها} يعني: الثاني {فلا جناح عليهما} يعني: المرأة، والزوج الأول {إن ظنّا أن يقيما حدود الله} قال طاووس: ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة. قوله تعالى: {وتلك حدود الله يبيّنها} قراءة الجمهور {يبينها} بالياء. وقرأ الحسن، ومجاهد، والمفضل عن عاصم بالنون {لقوم يعلمون} قال الزجاج: يعلمون أن أمر الله حق.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} قوله تعالى: {وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلَهن} قال ابن عباس: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها [يفعل ذلك]، يضارّها ويعضلها بذلك، فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا: زمان العدة. ومعنى البلوغ هاهنا: مقاربة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه، يقال: بلغت المدينة: إذا قاربتها، وبلغتها: إذا دخلتها. وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة. قوله تعالى: {فأمسكوهنَّ بمعروف} قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة. قوله تعالى: {وسرحوهنّ بمعروفٍ} وهو تركها حتى تنقضي عدتها. والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حق. والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل عدتها بالمراجعة، وهو معنى قوله: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} قاله الحسن ومجاهد، وقتادة في آخرين. وقال الضحاك: إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي {ومن يفعل ذلك} الاعتداء، {فقد ظلم نفسه} بارتكاب الإثم. قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} فيه قولان. أحدهما: أنه الرجل يطلق أو يراجع، أو يعتق، ويقول: كنت لاعباً. روي عن عمر، وأبي الدرداء، والحسن. والثاني: أنه المضار بزوجته في تطويل عدتها بالمراجعة والطلاق. قاله مسروق، ومقاتل. {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} قال ابن عباس: احفظوا منته عليكم بالإسلام. قال: والكتاب: القرآن. والحكمة: الفقه. {واتقوا الله} في الضرار {واعلموا أن الله بكل شيء} به وبغيره {عليم}
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} قوله تعالى: {وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ فلا تعضُلوهن} في سبب نزولها قولان. أحدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلقها تطليقة [ثم تركها] ومضت العدة، فكانت أحق بنفسها، فخطبها مع الخطاب، فرضيت أن ترجع إليه، فخطبها إلى معقل، فغضب معقل، وقال: أكرمتك بها، فطلقتها؟ لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن: فعلم الله، عز وجل، حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى بعلها. فنزلت هذه الآية، فسمعها معقل، فقال: سمعاً لربي، وطاعة، فدعا زوجها، فقال: أزوجك، وأكرمك. ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة، فقال: جميلة بنت يسار. والثاني: أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم، فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها، فأبى جابر، وقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته، فنزلت هذه الآية، قال السدي: فأما بلوغ الأجل في هذه الآية، فهو انقضاء العدة، بخلاف التي قبلها، قال الشافعي رضي الله عنه، دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين. قوله تعالى: {فلا تعضُلوهن} خطاب للأولياء. قال ابن عباس، وابن جبير، وابن قتيبة في آخرين. معناه: لا تحبسوهن. والعرب تقول للشدائد: معضلات. وداءٌ عضال: قد أعيا قال أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي *** يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمناً *** وصاحبك الأدنى إِذا الأمر أعضلا وقالت ليلى الأخيلية: إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها قال الزجاج: وأصل العضل، من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي مُعضِل: إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج، وعضلت الناقة أيضاً: إذا احتبس ولدها في بطنها. قوله تعالى: {إِذا تراضوا بينهم بالمعروف} قال السدي، وابن قتيبة: معناه: إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح. قال الشافعي: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي. قوله تعالى: {ذلك يوعظ به} قال مقاتل: الإشارة إلى نهي الولي عن المنع. قال الزجاج: إنما قال «ذلك»، ولم يقل: «ذلكم» وهو يخاطب جماعة، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد، والمعنى: ذلك أيها القبيل. قوله تعالى: {ذلكم أزكى لكم} يعني ردّ النساء إلى أزواجهن، أفضل من التفرقة بينهم و{وأطهر} أي: أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة، فيجتمعان على غير وجه صلاح. قوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} فيه قولان. أحدهما: أن معناه: يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: يعلم مصالحكم عاجلاً وآجلاً، قاله الزجاج في آخرين.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] وقال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء، لأن عليهم الاسترضاع، لا إلى الوالدات، بدليل قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن} وقوله تعالى: {فآتوهن أجورهن} [النساء: 24] فلو كان متحتماً على الوالدة، لم تستحق الأجرة، وهل هذا عام في جميع الوالدات، فيه قولان. أحدهما: أنه خاص في المطلقات، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه عام في الزوجات والمطلقات، ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة، قاله القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي في آخرين. والحول: السنة، وفي قوله: {كاملين} قولان. أحدهما: أنه دخل للتوكيد، كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196]. والثاني: أنه لما جاز أن يقول: «حولين»، ويريد أقل منهما، كما قال: {فمن تعجَّل في يومين فلا إِثم عليه} [البقرة: 203]. ومعلوم أنه يتعجل في يوم، وبعض آخر. وتقول العرب: لم أر فلاناً منذ يومين، وإنما يريدون: يوماً وبعض آخر-قال: كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن يُنقص منهما، وهذا قول الزجاج، والفراء. فصل اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فقال بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق به أحكام، منها أنه كمال الرضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدّة الحولين، ويجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثبت تحريم الرضاع في مدَّة الحولين، ولا يثبت فيما زاد، ونقل عن قتادة، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: {فان أَرادا فصالاً عن تراضٍ منهما} قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا قول بعيد، لأن الله تعالى قال في أولها: {لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة} فلما قال في الثاني: {فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما} خيّر بين الإرادتين، وذلك لا يعارض المدة المقدرة في التمام. قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} أي: هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين «أن تتم الرضاعةُ» وبالرفع، وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث. وقد نبّه ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين، وأكثر القراء على فتح راء «الرضاعة»، وقرأ طلحة بن مُصرِّف، وابن أبي عبلة، وأبو رجاء، بكسرها، قال الزجاج: يقال: الرضاعة بفتح الراء وكسرها، والفتح أكثر، ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح هاهنا لا غير. قوله تعالى: {وعلى المولود له} يعني: الأب {رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ} يعني: {المرضعات}. وفي قوله: {بالمعروف} دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر مالا يطيقه، ولا الموسر النزر الطفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن، إذ هو معتبر بالعادة. قوله تعالى: {لا تكلَّف نفس إِلا وسعها} أي: إلا ما تطيقه. {لا تُضارَّ والدةٌ بولدها} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان عن عاصم {لا تضارُّ} برفع الراء، وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بنصبها، قال أبو عليّ: من رفع، فلأجل المرفوع قبله، وهو «لا تكلفُ» فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ، ومن نَصب جعله أمراً، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف، قال ابن قتيبة: معناه: لا تضارر، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير: لا يحملنّ المطلقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده. وقال مجاهد: لا تأبى أن ترضعه ضراراً بأبيه، ولا يضارّ الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه، ليحزنها بذلك. وقال عطاء، وقتادة، والزهري، وسفيان، والسدي في آخرين. إذا رضيت بما يرضى به غيرها، فهي أحق به، وقرأ أبو جعفر «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها. قوله تعالى: {وعلى الوارث} فيه أربعة أقوال. أحدها: أنه وارث المولود، وهو قول عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والسدي، والحسن بن صالح، ومقاتل في آخرين. واختلف أرباب هذا القول، فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته، كائناً من كان، وهذا مروي عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم وسفيان. وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء، روي عن ابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن بن صالح، وإسحاق، وأحمد بن حنبل. وقال آخرون: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود، روي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. والقول الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا، وارث الوالد، روي عن الحسن والسدي. والثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر، روي عن سفيان. والرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه، والنفقة عليه، فإن لم يملك شيئاً، فعلى عصبته، قاله الضحاك، وقبيصة بن ذؤيب. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا القول لا ينافي قول من قال: المراد بالوارث وارث الصبي، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وفي قوله تعالى: {مثل ذلك} ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة، روي عن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وابراهيم، وقتادة، وقبيصة بن ذؤيب، والسدي. واختاره ابن قتيبة. والثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار، روي عن ابن عباس، والشعبي، والزهري. واختاره الزجاج. والثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك، روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، ومقاتل، وأبي سليمان الدمشقي، واختاره القاضي أبو يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة، وأن لا يضار، فيجب أن يكون قوله: {مثل ذلك}. مشيراً إلى جميع ما على المولود له. قوله تعالى: {فان أرادا فصالاً عن تراضٍ} الفصال: الفطام. قال ابن قتيبة: يقال: فصلت الصبيَّ أمّه: إذا فطمته. ومنه قيل للحوار إذا قُطع عن الرضاع: فصيل، لأنه فصل عن أمه، وأصل الفصل: التفريق. قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى، فليس لها، وإن أراد هو، ولم ترد، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما. قوله تعالى: {وإِن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} قال الزجاج: أي: لأولادكم. قال مقاتل: إِذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده. وفي قوله تعالى: {إِذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} قولان. أحدهما: إذا سلَّمتم أيها الآباء إِلى أمهات الأولاد أُجور ما أرضعن قبل امتناعهن، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. وقرأ ابن كثير {ما أتيتم} بالقصر، قال أبو علي: وجهه أن يقدر فيه: ما أتيتم نقده أو سوقه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه [فكأن التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة] كما تقول: أتيت جميلاً، أي: فعلته.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)} قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} أي: يقبضون بالموت. وقرأ المفضَّل عن عاصم «يَتوفون» بفتح الياء في الموضعين. قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد، واستيفاء الشيء: أن نستقصيه كله، يقال: توفيته واستوفيته، كما يقاله: تيقّنت الخير واستيقنته، هذا الأصل، ثم قيل للموت: وفاة وَتَوَفٍّ {ويتربصن} ينتظرن وقال الفراء: وإنما قال: {وعشراً} ولم يقل: عشرة، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام، غلبوا عليه الليالي، حتى إنهم ليقولون: صمنا عشراً من شهر رمضان، لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فاذا أظهروا مع العدد تفسيره، كانت الإناث بغير هاء، والذكور بالهاء كقوله تعالى: {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} [الحاقة: 7]. فان قيل: ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب: أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه، قاله سعيد بن المسيب، وأبو العالية، ويشهد له الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً [نطفة]، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح ". فصل وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها، وهي تأتي بعد آيات، وهي قوله: {والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إِلى الحول} [البقرة: 240] لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة، وسنذكر ما يتعلق بها هنالك، إن شاء الله. فأما التي نحن في تفسيرها: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسختها {وأُولات الأحمال أجلُهنَّ أن يضعن حمْلَهن} [الطلاق: 4] والصحيح: أنها عامة دخلها التخصيص، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، سواء كانت حاملاً، أو غير حامل، غير أن قوله تعالى: {وأُولات الأحمال أجلُهنَّ أَن يضعن حملهنَّ} خص أُولات الحمل، وهي خاصة أيضاً في الحرائر، فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام، فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص. قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلَهن} يعني: انقضاء العدة.
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} قوله تعالى: {ولا جناح عليكم} فيه قولان. أحدهما: أن معناه: فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك. والثاني: فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزينَّ وتزوجن، قال أبو سليمان الدمشقي: وهو خطاب لأوليائهن. قوله تعالى: {فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} فيه قولان. أحدهما: أنه التزين والتشوف للنكاح، قاله الضحاك، ومقاتل، والثاني: أنه النكاح، قاله الزهري، والسدي، و«الخبير» من أسماء الله تعالى، ومعناه: العالِم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته، و«الخبير» في صفة المخلوقين، إنما يستعمل في نوع من العلم، وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببدائه العقول. وعلم الله تعالى سواء، فيما غمض ولطف، وفيما تجلى وظهر. قوله تعالى: {ولا جُناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبة النساء} هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة. والتعريض: الإيماء والتلويح من غير كشف، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر. والخِطبة بكسر الخاء: طلب النكاح، والخُطبة بضم الخاء: مثل الرسالة التي لها أول وآخر. قال ابن عباس: التعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوج. وقال مجاهد: أن يقول: إنكِ لجميلة، وإِنك لحسنة، وإنك لإلى خير. قوله تعالى: {أو أكننتم في أنفسكم} قال الفراء: فيه لغتان، كننت الشيء، وأكننته وقال ثعلب: أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك، وكننته: إذا سترته بشيء. وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته، ومنه هذه الآية، وكننته: إذا صنته، ومنه قوله تعالى: {كأنهن بَيْض مكنون} [الصافات: 49]. قال بعضهم: يجعل كننته، وأكننته، بمعنى. قوله تعالى: {علم الله أنكم ستذكرونهن} قال مجاهد: ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سراً} فيه أربعة أقوال. أحدها: أن المراد بالسر هاهنا: النكاح، قاله ابن عباس. وأنشد بيت امرئ القيس: ألا زعمت بسباسةُ اليوم أنني *** كبرتُ وأن لا يشهد السر أمثالي وفي رواية: يشهد اللهو. قال الفراء: ونرى أنه مما كنى الله عنه، كقوله تعالى: {أو جاء أحدٌ منكم من الغائط} [النساء: 43]. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر: الإفضاء بالنكاح [المحرم] وأنشد: ويَحْرمُ سِرُّ جارتهم عليهم *** ويأكل جارُهم أنفَ القصاع قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً، فالمعنى: لا تواعدوهن بالتزويج، [وهن في العدة] تصريحاً {إِلا أن تقولوا قولاً معروفاً} لا تذكرون فيه رفثاً ولا نكاحاً. والثاني: أن المواعدة سراً: أن يقول لها: إني لك محب، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن المراد بالسر الزنى. قاله الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، وإبراهيم، وقتادة، والضحاك. والرابع: أن المعنى: لا تنكحوهن في عدتهن سراً، فاذا حلَّت أظهرتم ذلك، قاله ابن زيد. وفي القول المعروف قولان. أحدهما: أنه التعريض لها، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسدي والثاني: أنه إعلام وليها برغبته فيها، وهو قول عبيدة. قوله تعالى: {و لا تَعزموا عُقدة النكاح} قال الزجاج: معناه: لا تعزموا على عقدة النكاح، وحذفت «على» استخفافاً، كما قالوا: ضرب زيد الظَّهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن {حتى يبلغ الكتاب أجله} أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله. قال: ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» كقوله تعالى: {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183]. فيكون المعنى: حتى يبلغ الفرض أجله. قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي: بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة. قوله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم} قال ابن عباس: من الوفاء، فاحذروه أن تخالفوه في أمره. والحليم قد سبق بيانه.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} قوله تعالى: {لا جناح عليكم إِن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير الف حيث كان، وبفتح التاء. وقرأ حمزة والكسائي، وخلف «تماسُّوهن» بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ثالث. قال أبو علي: وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و«فعل» ما يراد بالآخر، تقول: طارقت النعل، وعاقبت اللص. " قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة، ولم يسم لها مهراً، فطلقها قبل أن يمسها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هل متعتها بشيء؟» قال: لا. قال: «متعها ولو بقلنسوتك " ومعنى الآية: ما لم تمسوهن، ولم تفرضوا لهن فريضة. وقد تكون «أو» بمعنى الواو. كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفورا} [الدهر: 24]. والمسُّ: النكاح، والفريضة: الصداق، وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمة مهر {ومتعوهن} أي: أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر. والمتاع: اسم لما ينتفع به، فذلك معنى قوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «قدْره» باسكان الدال في الحرفين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بتحريك الحرفين، وعن عاصم: كالقراءتين، وهما لغتان. فصل وهل هذه المتعة واجبة، أم مستحبة؟ فيه قولان. أحدهما: واجبة، واختلف أرباب هذا القول، لأي المطلقات تجب. على ثلاثة أقوال. أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة، روي عن علي، والحسن، وأبي العالية، والزهري. والثاني: أنها تجب لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها صداقاً، ولم يمسها، فإنه يجب لها نصف ما فرض، روي عن ابن عمر، والقاسم بن محمد، وشريح، وإبراهيم. والثالث: أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً. فان دخل بها، فلا متعة، ولها مهر المثل، روي عن الأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل. والثاني: أن المتعة مستحبة، ولا تجب على أحد، سواء سمى للمرأة، أو لم يسم، دخل بها، أو لم يدخل، وهو قول مالك، والليث بن سعد، والحكم، وابن أبي ليلى. واختلف العلماء في مقدار المتعة، فنقل عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب: أعلاها خادم، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها، وروي عن حماد وأبي حنيفة: أنه قدر نصف صداق مثلها. وعن الشافعي وأحمد: أنه قدر يساره وإعساره، فيكون مقدراً باجتهاد الحاكم. ونقل عن أحمد: المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصلاة من الكسوة، وهو درع وخمار. قوله تعالى: {متاعاً بالمعروف} أي: بقدر الإمكان، والحق: الواجب. وذكر المحسنين والمنفقين ضرب من التأكيد.
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أي: قبل الجماع {وقد فرضتم لهن} أي: أوجبتم لهن شيئاً التزمتم به، وهو المهر {إلا أن يعفون} يعني: النساء، وعفو المرأة: ترك حقها من الصداق الوفي: الذي بيده عقدة النكاح ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الزوج، وهو قول عليّ، وابن عباس، وجبير ابن مطعم، وابن المسيب، وابن جبير، ومجاهد، وشريح، وجابر بن زيد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن شبرمة، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين. والثاني: أنه الولي، روي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاووس، والشعبي، وابراهيم في آخرين. والثالث: أنه أبو البكر. روي عن ابن عباس، والزهري، والسدي في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج: أن يكمل لها الصداق، وعلى الثاني: عفو الولي: ترك حقها إذا أبت، روي عن ابن عباس، وأبي الشعثاء، وعلى الثالث يكون قوله: {إلا أن يعفون} يختص بالثيبات. وقوله: {أو يعفوَ} يختص أبا البكر، قاله الزهري.، والأول أصح، لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي، فصارت بيد الزوج، والعفو إنما يُطلق على ملك الإِنسان، وعفو الولي عفو عما لا يملك، ولأنه قال: {ولا تنسَوا الفضل بينكم} والفضل فيه هبة الإنسان مال نفسه، لا مال غيره. قوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} فيه قولان. أحدهما: أنه خطاب للزوجين جميعاً، روي عن ابن عباس، ومقاتل، والثاني: أنه خطاب للزوج وحده، قاله الشعبي، وكان يقرأ: «وأن يعفو» بالياء. قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} خطاب للزوجين، قال مجاهد: هو إتمام الرجل الصداق، وترك المرأة شطرها.
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} المحافظة: المواظبة والمداومة، والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود، والمراد: الصلوات الخمس. قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} قال الزجاج: هذه الواو إذا جاءت مخصصة، فهي دالة على فضل الذي تخصصه، كقوله تعالى: {وجبريل وميكال} [البقرة: 97] قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه. ثم فيها خمسة أقوال. أحدها: أنها العصر، روى مسلم في «أفراده» من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يوم الأحزاب: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً " وروى ابن مسعود، وسمرة، وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنها صلاة العصر. وروى مسلم في «أفراده» من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية {حافظوا على الصلوات [والصلاة الوسطى] وصلاة العصر} فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبيّ أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، وابن عباس، في رواية عطية، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن عمير، وزرّ بن حبيش، وقتادة، وأبي حنيفة، ومقاتل في آخرين، وهو مذهب أصحابنا. والثاني: أنها الفجر، روي عن عمر، وعليّ في رواية، وأبي موسى، ومعاذ، وجابر بن عبد الله، وأبي أُمامة، وابن عمر في رواية مجاهد، وزيد بن أسلم، وابن عباس في رواية أبي رجاء العطاردي، وعكرمة، وجابر بن زيد، وأنس بن مالك، وعطاء، وعكرمة، وطاووس في رواية ابنه، وعبد الله بن شداد، ومجاهد، ومالك، والشافعي. وروى أبو العالية قال: صليت مع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ الغداة فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل. والثالث: أنها الظهر، روي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وروى ضميرة عن عليّ رضي الله عنه قال: هي صلاة الجمعة، وهي سائر الأيام الظهر. والرابع: أنها المغرب، روي عن ابن عباس، وقبيصة بن ذؤيب. والخامس: أنها العشاء الأخيرة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في «تفسيره». وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال. أحدها: أنها أوسط الصلوات محلاً. والثاني: أوسطها مقداراً. والثالث: أفضلها. ووسط الشيء: خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 142] فان قلنا: إن الوسطى بمعنى: الفضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنها أوسطها مقداراً، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعاً. وإن قلنا: إنها أوسطها محلاً، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى. ومن قال: هي الفجر، فقال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار، وقال: وسمعت أبا العباس يعني، ثعلباً يقول: النهار عند العرب أوله: طلوع الشمس. قال ابن الأنباري: فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل، قال: وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار، لأن أول وقتها أول وقت الصوم. قال: والصواب عندنا أن نقول: الليل المحض خاتمته طلوع الفجر، والنهار المحض أوله: طلوع الشمس، والذي بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهاراً، ويجوز أن يسمى ليلاً، لما يوجد فيه من الظلمة والضوء، فهذا قول يصح به المذهبان. قال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار. فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت، الظهر، فصارت المغرب وسطى، ومن قال: هي العشاء، فإنه قال: هي بين صلاتين لا تقصران. قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة، فأما القنوت، فقد شرحناه فيما تقدم. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والشعبي، وطاووس، والضحاك، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه طول القيام في الصلاة، روي عن ابن عمر، والربيع بن أنس. وعن عطاء كالقولين. والثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة. قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت الآية {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت [ونهينا عن الكلام].
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)} قوله تعالى: {فان خفتم فرجالا} أي: خفتم عدواً، فصلوا رجالاً، وهو جمع راجل، والركبان جمع راكب، وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة، لأنه أمر بفعلها على كل حال. وقيل: إن هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النساء، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله: {وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 102]. ثم نزلت هذه الآية: {فإن خفتم} أي: خوفاً أشد من ذلك، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق؟ فالجواب: أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {فان خفتم فرجالاً أو ركباناً} قال أبو بكر الأثرم: فقد بين الله أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ. قوله تعالى: {فاذا أمنتم فاذكروا الله} في هذا الذكر قولان. أحدهما: أنه الصلاة، فتقديره: فصلوا كما كنتم تصلون آمنين. والثاني: أنه الثناء على الله، والحمد له.
|