الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (86): {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}{أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة} أي آثروا الحياة الدنا واستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} الموعودون به يوم القيامة أو مطلق {العذاب} دنيويًا كان أو أخرويًا.{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا، والتعذيب في العقبى، وعلى الاحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده، ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف، وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه، ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب، والجملة معطوفة على الصلة. ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانًا، وجوز أن يكون {أولئك} مبتدأ و{الذين} خبره، وهذه الجملة خبر بعد خبر، والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلًا كان فيها معنى الشرط، وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبرًا عنه، وجوز أيضًا أن يكون {أولئك} مبتدأ و{الذين} مبتدأ ثان، وهذه الجملة خبر الثاني، والمجموع خبر الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك، ولا يخفى ما فيه هذا.ومن باب الإشارة في هذه الآيات {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} يلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية {وَلاَ تُخْرِجُونَ} ذواتكم من مقارّكم الروحانية، ورياضتكم القدسية {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بقبولكم لذلك {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 48] عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الاستعداد {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم} من أوطانهم القديمة باغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على ارتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بارتكاب الفواحش ليروكم فيتبعوكم فيها وبالزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى} في قيد ما ارتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن اتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة {أَفَتُؤْمِنُونَ} ببعض كتاب العقل والشرع قولًا وإقرارًا {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فعلًا وعملًا فلا تنتهون عما نهاكم عنه {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ} ذلة وافتضاح في الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن {تُرَدُّونَ إلى أَشَدَّ العذاب} وهو تعذيبهم بالهيآت المظلمة الراسخة في نفوسهم واحترافهم بنيرانها {وَمَا الله بغافل} [البقرة: 85] عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم..تفسير الآية رقم (87): {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بما لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، والايتاء الاعطاء، و{الكتاب} التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان لآتينا وعند السهيلي مفعول أول، والمراد باتيانها له إنزالها عليه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكًا فلم يطيقوا حملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها، وقيل: يحتمل أن يكون آتينا إلخ افهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم الكتاب أو فهمه وليس بالظاهر.{وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} يقال قفاه إذا اتبعه وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفًا وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع وشمويل وشمعون. وداود وسليمان وشعياء وارمياء وعزيز وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر بالرسل بتسكين السين، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم.{وَءاتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة أوتيها عليه السلام وهو الظاهر، وقيل: الانجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة ومعناه السيد وقيل: المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسي وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين وقد تضم وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل: لأنه ليس متبعًا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرًا من شريعته، وأضافه إلى أمه ردًا على اليهود إذ زعموا أن له أبًا، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخذمة بيت المقدس، وقيل: العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل: ولا يناسب مريم أن يكون عربيًا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحًا كما يسمى الأسود كافورًا، وقال بعض المحققين: لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي القاموس هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف؛ وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيهًا لها ريم البتول ووزنه عربيًا مفعلًا لا فعيلًا لأنه لم يثبت في الأبينة على المشهور، وأثبته الصاغاني في «الذيل»، وقال: إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضهيد بالمهملة والمعجمة للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك شابهتها الرجل؛ وابن جني يقول: إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر الساليكوتي أن عثير عنى الغبار بكسر العين وإذا كان مفعلًا فهو أيضًا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقبلها ألفًا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسريائه أيضًا.{وأيدناه بِرُوحِ القدس} أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق روح القدس عليه شائع فقد قال سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] وقال صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله تعالى عنه: «اهجهم وروح القدس معك» ومرة قال له: «وجبريل معك» وقال حسان:و قدس الطهارة والبركة، أو التقديس ومعناه التطهير. والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، وهي معنوية عنى اللام فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤلا بواحد من المسمين به. وقال مجاهد والربيع: {القدس} من أسماء الله تعالى كالقدوس وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان ومعلوم أن جبريل ليس كذلك لكنه أطلق عليه سبيل التشبيه من حيث إن الروح سبب الحياة الجسمانية، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره، كما قال تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلًا} [المائدة: 110] ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان، ولأنه بالغ إثنا عشر ألف يهودي لقتله، فدخل عيسى بيتًا فرفعه عليه السلام مكانًا عليًا. وقيل: الروح هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال ابن زيد: الإنجيل كما جاء في شأن القرآن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية، وقيل: روح عيسى عليه السلام نفسه، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته عليه تعالى ولذلك أضافها إلى نفسه أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها. وقرأ ابن كثير {القدس} بسكون الدال حيث وقع، وأبو حيوة {القدوس} بواو.{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بما لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم} مسبب عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا} بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت الهمزة بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى ولقد آتينا موسى الكتاب وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول فعكستم بأن كذبتم ويحتمل أن يكون ابتداء كلام والفاء للعطف على مقدر كأنه قيل: أفعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد الفاء فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل {أَكْفَرْتُمْ النعمة عَنِ الهوى} فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضى أنه لو كان كذلك لجاز وقوع الهمزة في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفًا عليه ولم تجيء إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة بالواو، أو الفاء، أو ثم في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع على هذا وفي البعض على ذلك بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام والقلب يميل إليه قيل: ولا يلزم بطلان صدارة الهمزة إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها ضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخيًا أو غير متراخ، وهذا مراد من قال: إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة و{تهوى} من هوي بالكسر إذا أحب، ومصدره هوى بالقصر، وأما هوى بالفتح فعنى سقط، ومصدره هوى بالضم وأصله فعول فأعل. وقال المرزوقي: هوى انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول: هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد، وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال: هوى يهوي هويًا بفتح الهاء إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هويًا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى وما ذكرناه أولا هو المشهور والهوى يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية.وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق {استكبرتم} محذوف أي عن الإيمان بما جاء به مثلًا، واستفعل هنا عنى تفعل.{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} الظاهر أنه عطف على {استكبرتم} والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفًا على {وأيدناه} ويكون {أَفَكُلَّمَا} مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم {فَرِيقًا} في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثمّ محذوف أي: فريقًا منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارًا لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض. والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا، وقيل: لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ «وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلابد من التعميم. .تفسير الآية رقم (88): {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} عطف على {استكبرتم} [البقرة: 78] أو على {كَذَّبْتُمْ} [البقرة: 87] فتكون تفسيرًا للاستكبار، وعلى التقديرين فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضًا عن مخاطبتهم وإبعادًا لهم عن الحضور، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والغلف جمع أغلف كأحمر وحمر وهو الذي لا يفقه، قيل: وأصله ذو الغلفة الذي لم يختن، أو جمع غلاف ويجمع على غلف بضمتين أيضًا. وبه قرأ ابن عباس وغيره، وأرادوا على الأول قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها، وهذا كقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] قصدوا به إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة وقطع طمعه عنهم بالكلية، وقيل: مغشاة بعلوم من التوراة نحفظها أن يصل إليها ما تأتي به، أو بسلامة من الفطرة كذلك، وعلى الثاني أنها أوعية العلم فلو كان ما تقوله حقًا وصدقًا لوعته قاله ابن عباس وقتادة والسدي أو مملوءة علمًا فلا تسع بعد شيئًا فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، روي ذلك عن ابن عباس أيضًا، وقيل: أرادوا أنها أوعية العلم فكيف يحل لنا اتباع الأمي ولا يخفى بعده.{بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} رد لما قالوه، وتكذيب لهم فيما زعموه، والمعنى أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن الله تعالى أبعدهم، وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقًا وصدقًا بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم أو أن الله تعالى أقصاهم عن رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذي هو أجل آثارها، ويعلم من هذه الوجوه كيفية الرد على ما قيل قبل من الوجوه.{فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} الفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان، وقليلًا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانًا قليلًا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وما مزيدة لتأكيد معنى القلة لا نافية لأن ما في حيزها لا يتقدمها ولأنه وإن كان عنى لا يؤمنون قليلًا فضلًا عن الكثير لكن را يتوهم لاسيما مع التقديم أنهم لا يؤمنون قليلًا بل كثيرًا، ولا مصدرية لاقتضائها رفع القليل بأن يكون خبرًا، والمصدر المعرف بالإضافة مبتدأ، والتقدير فإيمانهم قليل، وجوز بعضهم كونها نافية بناء على مذهب الكوفيين من جواز تقدم ما في حيزها عليها ولم يبال بالتوهم وآخرون كونها مصدرية، والمصدر فاعل {قَلِيلًا} وكانوا مقدرة في نظم الكلام فتكون على طرز {كَانُواْ قَلِيلًا مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ}[الذريات: 17] ولا يخفى ما فيه من التكلف، وجوز أيضًا انتصاب قليلًا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل {يُؤْمِنُونَ} والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، وهو المروي عن سيبويه أو فيؤمنون حال كونهم جمعًا قليلًا أي المؤمن منهم قليل، وهو المروي عن ابن عباس وطلحة وقتادة، ولذا جوز كونه نعتًا للزمان أي زمانًا قليلًا وهو زمان الاستفتاح أو بلوغ الروح التراقي، أو ما قالوا: {ءامِنُواْ بالذي أُنزِلَ عَلَى الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره} [آل عمران: 72] وأولى الوجوه أولها، والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي، والقلة مقابل الكثرة، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون عنى العدم، وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلًا ولا كثيرًا؛ واعترضه في البحر بأن القلة عنى النفي، وإن صحت لكن في غير هذا التركيب لأن قليلًا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير قمت قليلًا أي قيامًا قليلًا، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلًا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسًا، وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم أقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد فحملها هنا على ذلك ليس بصحيح، وليت شعري أي معنى لقولنا يؤمنون إيمانًا معدومًا، وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون: مررنا بأرض قليلًا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئًا فإنما ذلك لأن قليلًا حال من الأرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية والتقدير قليلًا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدم وأين ما نحن فيه من ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمخشري غير قائل به، ويمكن أن يقال: إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة مستعمل عنى العدم فإنه هنا قول بارد جدًا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة.
|