الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
وأما الإقامة فهي خلاف السفر فالناس رجلان مقيم ومسافر ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين إما حكم مقيم وإما حكم مسافر وقد قال تعالى: " وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته بمكة أربعة أيام ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه فدل على أنهم كانوا مسافرين وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر غداً أسافر بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له وهي أعظم مدينة فتحها وبفتحها ذلت الأعداء وأسلمت العرب وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة وكذلك في تبوك. وأيضاً فمن جعل للمقام حداً من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة وإما اثني عشر وإما خمسة عشر فإن قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع وهي تقديرات متقابلة فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة وتجب عليه وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر والثالث مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا لا تنعقد به الجمعة وقالوا إنما تنعقد الجمعة بمستوطن. وهذا التقسيم وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن وغير مستوطن تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع ولا دليل على أنه تجب على من لا تنعقد به بل من وجبت عليه انعقدت به وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيماً يجب عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن فلم يمكن أن يقولوا تنعقد به الجمعة فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن لكن إيجاب الجمعة على هذا وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال إنه لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع فإن هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع وحاله بتبوك بل وهذه حال جميع الحجيج الذين يقدمون مكة ليقضوا مناسكهم ثم يرجعوا وقد يقدم الرجل بمكة رابع ذي الحجة وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام وقد يقدم بعد ذلك وهم كلهم مسافرون لا تجب عليهم جمعة ولا إتمام والنبي صلى الله عليه وسلم قدم رابعة من ذي الحجة وكان يصلي ركعتين لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ويأمر أصحابه بالإتمام ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك ولو كان هذا حداً فاصلاً بين المقيم والمسافر لبينه للمسلمين كما قال تعالى: " فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد السفر والذين حدوا ذلك بأربعة منهم من احتج بإقامة المهاجر وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم لمصر أن يكون مقيماً يتم الصلاة لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فإنه أقامها وقصر وقالوا في غزوة الفتح وتبوك أنه لم يكن عزم على إقامة مدة لأنه كان يريد عام الفتح غزو حنين وهذا الدليل مبني على أنه من قدم لمصر فقد خرج عن حد السفر وهو ممنوع بل هو مخالف للنص والإجماع والعرف فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة أو يبيعها ويذهب هو مسافر عند الناس وقد يشتري السلعة ويبيعها في عدة أيام ولا يحد الناس في ذلك حداً. والذين قالوا يقصر إلى خمسة عشر قالوا: هذا غاية ما قيل وما زاد على ذلك فهو مقيم بالإجماع وليس الأمر كما قالوه وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد على الأربعة احتياطاً واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم أو يقصر لتردد الاجتهاد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرابع فإن كان صلى الفجر بمبيته وهو ذو طوى فإنما صلى بمكة عشرين صلاة وإن كان صلى الصبح بمكة فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة والصحيح أنه إنما صلى الصبح يومئذ بذي طوى ودخل مكة ضحى وكذلك جاء مصرحاً به في أحاديث قال أحمد في رواية الأثرم إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك إثم واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة قال فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر فلماذا جمع على أكثر من ذلك إثم قال الأثرم قلت له: فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك قال: لأنهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم. قال قيل لأبي عبد الله يقول أخرج اليوم أخرج غداً ليقصر فقال: هذا شيء آخر هذا لم يعزم. فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط وهذا لا يقتضي الوجوب وأيضاً فإنه معارض يقول من يوجب القصر ويجعله عزيمة في الزيادة وقد روى الأثرم: حدثنا الفضل ابن دكين حدثنا مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال: أقمنا مع سعد بعمّان أو بعمان شهرين فكان يصلي ركعتين ونصلي أربعاً فذكرنا ذلك له فقال: نحن أعلم. قال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول قال بعضهم: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام فقد أجمع إقامة أكثر من أربعة. قال الأثرم: حدثنا مسلم ابن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا يحيى عن حفص بن عبيد الله أن أنس ابن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة. قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا هشام حدثنا ابن شهاب عن سالم قال: كان ابن عمر إذا أقام بمكة قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى إنه كان أحياناً يحرم بالحج من هلال ذي الحجة وهو كان من المهاجرين فما كان يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث ولهذا أوصى لما مات أن يدفن بسرف لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها. وقال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال: ما كان ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام ولهذا أقام مرة ثنتي عشر يصلي ركعتين وهو يريد الخروج وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم وكان ابن عمر كثير الحج وكان كثيراً ما يأتي مكة قبل الموسم بمدة طويلة. قال الأثرم: حدثنا ابن الطباع حدثنا القاسم بن موسى الفقير عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري وأبا صرمة الأنصاري وعقبة بن عامر شتوا بأرض الروم فصاموا رمضان وقاموه وأتموا الصلاة. قال الأثرم: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل قال خرج مسروق إلى السلسلة فقصر الصلاة فأقام سنين يقصر حتى رجع وهو يقصر قيل يا أبا عائشة ما يحملك على هذا قال: إتباع السنة.
والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعاً ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو فعله بعض أصحابه على عهده فأقره عليه وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين وأربعاً بمنزلة الصوم والفطر في رمضان وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم الصائم ومنهم المفطر وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته وأما ما ذكروه من التربيع فحسبه بعض أهل العلم صحيحاً وبذلك استدل الشافعي وبعض أصحاب أحمد قال الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصر ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف إن شاء المسافر أن عائشة قالت: كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم في السفر وقصر قلت: وهذا الحديث رواه الدارقطني وغيره من حديث أبي عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح قال البيهقي: ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمر وكلهم ضعيف وروي حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا دلهم بن صالح الكندي عن عطاء عن عائشة قالت: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى وروى حديث المغيرة وهو أشهرها عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم وروى حديث طلحة بن عمر عن عطاء عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم وقصر وصام وأفطر. قال البيهقي وقد قال عمر بن ذر كوفي ثقة: أنا عطاء بن أبي رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعاً وروى ذلك بإسناده ثم قال وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح وإن كان في رواية دلهم زيادة سند. قلت: أما ما رواه الثقة عن عطاء عن عائشة من أنها كانت تصلي أربعاً فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره عن عائشة وإذا كان إنما أسنده هؤلاء الضعفاء والثقاة وثقوه على عائشة دل ذلك على ضعف المسند ولم يكن ذلك شاهداً للمسند قال ابن حزم في هذا الحديث انفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غيره وقد قال فيه أحمد بن حنبل: ضعيف كل حديث أسنده منكر. قلت: فقد روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضاً وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه سئل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر وهو كما قال الإمام أحمد وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعي ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه كان يقصر في السفر وتتم ويفطر وتصوم بمعنى أنها هي التي كانت تتم وتصوم وهذا أشبه بما روي عنها من غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضاً. قال البيهقي: وله شاهد قوي بإسناد صحيح وروي من طريق الدارقطني من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال: " أحسنت يا عائشة " ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة لم يذكر إياه. قال الدارقطني: الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ثنا عباس الدوري ثنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير ثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال: " أحسنت يا عائشة " وما عاب علي. قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ. قلت: أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وما فيها من اختلاف الألفاظ وهو أقرب إلى طريقه أهل الحديث والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين ولهذا رجح هذه الطريق وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد منهم إلا النسائي ولفظه عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال: " أحسنت يا عائشة " وما عاب علي وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد لم يتكلفه ولحكم ببطلانها. والصواب ما قاله أبو بكر وهو أن هذا الحديث ليس بمتصل وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته وقال فيه أبو محمد بن حزم هذا الحديث تفرد به العلاء ابن زهير الأزدي لم يروه غيره وهو مجهول وهذا الحديث خطأ قطعاً فإنه قال فيه إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان بل ولا خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح فإنه كان حينئذ مسافراً في رمضان وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم وفي ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعاً والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى وعام فتح مكة لم يعتمر بل ثبت بالنقول المستفيضة التي اتفق عليها أهل العلم به إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عمر منها ثلاث في ذي القعدة والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون فحل بالحديبية بالاحصار ولم يدخل مكة وكانت في ذي القعدة ثم اعتمر في العام القابل عمرة القضية وكانت ذي القعدة أيضاً ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة وكانت عمرته في ذي القعدة أيضاً والرابعة مع حجته ولم يعتمر بعد حجه لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت وأمرها أن تهل بالحج ثم اعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد مساجد عائشة فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة فهذا كله تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه: عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري اعتمر أربعاً عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعمرة حنين من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع وفي الصحيحين عن البرآء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري. وأراد بذلك العمرة التي أتمها وهي عمرة القضية والجعرانة وأما الحديبية فلم يمكن إتمامها بل كان منحصراً لما صده المشركون وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما قيل لها إن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط ما اعتمر إلا وهو معه. وفي رواية عن عائشة قالت: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وكذلك عن ابن عباس رواهما ابن ماجة. وقد روى أبو داود عنها قالت: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال وهذا إن كان ثابتاً عنها فلعله ابتداء سفره كان في شوال ولم تقل قط أنه اعتمر في رمضان فعلم أن ذلك خطأ محض. وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة وثبت أيضاً أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا ثلاث مرات عمرة القضية ثم غزوة الفتح ثم حجة الوداع وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة الفتح كان كل من هذين دليلاً قاطعاً على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت معه في رمضان وقالت: أتممت وصمت فقال: أحسنت خطأ محض. فعلم قطعاً أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: " من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب. فإن قيل فيكون قوله في رمضان خطأ وسائر الحديث يمكن صدقه قيل بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان لأنها قالت: قلت أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: أحسنت يا عائشة وهذا إنما يقال في الصوم الواجب. وأما السفر في غير رمضان فلا يذكر فيه مثل هذا لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز وأيضاً فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ففرضت ثلاثاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى وإذا قام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح لأنها تطول فيها القراءة فقد أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين فلو كان تارة يصلي أربعاً لأخبرت بذلك وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة. وأيضاً فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أقل من عشرين سنة لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين وإنما أقام بالمدينة عشراً فإذا كان قد بنى بها في أول الهجرة كان عمرها قريباً من عشرين ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك لكان عمرها حينئذ أقل وأيضاً فلو كانت كبيرة فهي إنما تتعلم الإسلام وشرائعه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر خلاف ما يفعله هو وسائر المسلمين وسائر أزواجه ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين وما بالها فعلت هذا في هذه السفرة دون سائر أسفارها معه وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة. وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ورواية أصحابه الثقات ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة وعن عائشة يرويه مثل ربيعة ومن رواية الشعبي عن عائشة وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة فكيف تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه وهي تراه والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين وأيضاً فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها عروة ابن أختها بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد كما رواه النيسابوري والبيهقي وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب بن جرير ثنا شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعاً فقلت لها: لو صليت ركعتين فقالت: يا ابن أخي إنه لا يشق علي. وأيضاً فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر على ركعتين وأتمت في الحضر أربعاً. قال صالح: فأخبر بها عمر بن عبد العزيز فقال: إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر قال: فوجدت عروة يوماً عنده فقلت: كيف أخبرتني عن عائشة فحدث مما حدثني به. فقال عمر: أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعاً في السفر قال: بلى. وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. قال الزهري: قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة قال: أنها تأولت كما تأول عثمان فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت: لا يشق علي وقال: إنها تأولت كما تأول عثمان فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من اجتهادها ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الإتمام أو كان هو قد أتم لكانت قد فعلت ذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عثمان ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد. ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر وقد عرف أنه باطل فكيف بما هو أبطل منه وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم في السفر ويقصر وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق عليها أصحابه نقلاً عنه وتبليغاً إلى أمته لم ينقل عنه قط أحمد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعاً بل تواترت الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه. والحديث الذي يرويه زيد العمي عن أنس بن مالك قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر. هو كذب بلا ريب وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك والثابت عن أنس إنما هو في الصوم ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون فرادى بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر فهذا الحديث من الكذب وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها وإنما أوقعه في هذا مع علمه ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر فمن سلك هذه السبيل دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع بتأويلات يبين فسادها ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي. والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد قيل أنه مصحف وإنما لفظه كان يقصر وتتم هي بالتاء ويفطر وتصوم هي ليكون معنى هذا الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه فإنه معروف عن عبد الرحمن بن الأسود لكنه لم يحفظ عن عائشة. وأما نقل هذا الآخر عن عطاء فغلط على عطاء قطعاً وإنما الثابت عن عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً كما رواه غيره ولو كان عند عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة لكانت تحتج بها ولو كان ذلك معروفاً من فعله لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون خلفه دائماً في السفر فإن هذا السفر مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال كقيامه بالليل واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه بل أمور السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه فإنما كان يسافر بها أحياناً وكانت تكون مخدرة في خدرها وقد ثبت عنها في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هاني عن المسح على الخفين قالت: سل علياً فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في السفر فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها في الحضر ولا في السفر إلا إماماً بأصحابه إلا أن يكون له عذر من مرض أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب ليصلح بين أهل قباء وكما غاب في السفر للطهارة فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم الصبح ولما حضر النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك وصوبه وإذا كان الإتمام إنما كان والرجال يصلون خلفه فهذا مما يعلمه الرجال قطعاً وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإن ذلك مخالف لعادته في عامة أسفاره فلو فعله أحياناً لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح على الخفين لما فعله وإن كان الغالب عليه الوضوء وكما نقلوا عنه الجمع بين الصلاتين أحياناً وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص مع أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض فإن الناس لا يشعرون بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر فإن هذا أمر يرى بالعين إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر وخروج وقت المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها وقد روي أنه كان يجمع كذلك فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعاً لو فعل ذلك في السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شبهة ولا نزاع بل كان ينقله المسلمون ومن جوز عليه أن يصلي في السفر أربعاً - ولا ينقله أحد من الصحابة ولا يعرف قط إلا من رواية واحد مضعف عن آخر عن عائشة والروايات الثابتة عن عائشة لا توافقه بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر مرة أربعاً لصدق ذلك ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ويعلم أنه لو كان حقاً لكان ينقل ويستفيض وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى: " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقاً لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله وذلك مما روى أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال: سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فاحفظوهن عني ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف فكان يصلي ركعتين ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ثم حججت مع أبي بكر واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم حججت مع عمر واعتمرت فصلى ركعتين وقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم إن عثمان أتم فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين هو مما اتفقت عليه سائر الروايات فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين. وأما ما ذكره من قوله: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فهذا مما قاله بمكة عام الفتح لم يقله في حجته وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية. وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده رواه البيهقي من طرقه ولفظه: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً إلا صلى ركعتين حتى يرجع ويقول: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وغزا الطائف وحنين فصلى ركعتين وأتى الجعرانة فاعتمر منها وحججت مع أبي بكر واعتمرت فكان يصلي ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان يصلي ركعتين فلم يذكر قوله إلا عام الفتح قبل غزوة حنين والطائف ولم يذكر ذلك عن أبي بكر وعمر وقد رواه أبو داود في سننه صريحاً من حديث ابن علية: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال: عرفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين يقول: " يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر " وهذا إنما كان في غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة في الحج ركعتين ثم قال عمر بعد ما سلم: أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر. هذا ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة لا ممن نقل صلاته ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي على نقله مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون أن المكيين يقصرون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى أفيكون كان معروفاً عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع ولا يجهله أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين. حارثة هذا خزاعي وخزاعة منزلها حول مكة. وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل أنه كان لأنه تأهل بمكة فصار مقيماً وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذآب أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تأهل في بلد فليصل صلاة مقيم بمكة ثلاثة أيام ويقصر الرابعة " فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك فإن عثمان كان من المهاجرين وكان المقام بمكة حراماً عليهم. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطناً بمكة إلا أن يقال أنه جعل التأهل إقامة لا إستيطاناً فيقال معلوم أن من أقام بمكة ثلاثة أيام فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذلك لكن قد يكون نفس التأهل مانعاً من القصر وهذا أيضاً بعيد فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بمنى وأيضاً فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون إقتداءً به ولو كان عذره مختصاً به لم يفعلوا ذلك وقيل إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع وهذا أيضاً ضعيف فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أجهل منهم في زمن عثمان ولم يتمم الصلاة وأيضاً فهم يرون صلاة المسلمين في المقام أربع ركعات وأيضاً فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك وعروة قد قال أن عائشة تأولت كما تأول عثمان وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر ورأوا أن الدنيا لما اتسعت عليهم لم يحصل لهم من المشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعاً كما قد جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ أن ذلك كان لأجل حاجتهم إذ ذاك إلى هذه المتعة فتلك الحاجة قد زالت. تمت. هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة للشيخ تقي الدين بن تيمية وكان المنقول عنها يقول كاتبها أنه نقلها من نسخة بخط ابن المقيم رحمهم الله وقد وقع الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي والحمد لله رب العالمين.
|