الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الفصل الرابع والخمسون: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور معا إلا للأقل: .الفصل الخامس والخمسون: في صناعة الشعر ووجه تعلمه: أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله: أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله: أو باستعظام الحادث كقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله: أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية: أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله: وأمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام ومذاهبه وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائية وخبرية إسمية وفعلية متفقة مفصولة وموصولة على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا ولا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس وهو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو وبهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعين وفي المنثور يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه وكل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي والبياني والعروضي نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما ونثرا وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها وذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ ودلالتها فناسب أن يكون حدا عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره والأوصاف المفضل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به فقولنا الكلام البليغ جنس وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب وغيرهم ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبى نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبى فراس وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هؤلاء الجمام وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر ولا يكره نفسه عليه وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه بعضها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة وقد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر والحاكم بذلك هو الذوق وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقصر وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلا الفحول وفي القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف بالترك والإهمال وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك وهذه نبذة كافية والله المعين وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق: ومن ذلك أيضا قول بعضهم وهو الناشي:
|