الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن انتزاء أبي الفضل بن المولى أبي سالم ثم نهوض السلطان إليه ومهلكه: لما فتك السلطان عبد العزيز بعمر بن عبد الله المتغلب عليه سولت لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه مثلها في عامر بن محمد لمكان استبداده عليه وأغراه بذلك البطانة وتوجس لها عامر فتمارض بداره واستأذنه في الصعود إلى معتصمه بالجبل ليمرضه هنالك أقاربه وحرمه وارتحل بجملته ويئس أبو الفضل من الاستمكان منه وأغراه حشمه بالراحة من عبد المؤمن ولليال من منصرف عامر ثمل أبو الفضل ذات ليلة وبعث عن قائد الجند من النصارى فأمر بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة مراكش فجاء برأسه إليه وطار الخبر إلى عامر فإرتاع وحمد الله إذ خلص من غائلته وبعث ببيعته إلى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغبه في ملك مراكش ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إلى مراكش ونادى في الناس بالعطاء وقضى أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة واستبد أبو الفضل من بعد مهلك عبد المؤمن واستوزر طلحة النوري وجعل علامته لمحمد بن محمد بن منديل الكناني وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي ثم اشخص طلحة النوري بسعاية الكناني فقتله واعتمد منازلة عامر بعساكره ولما فصل لذلك من مراكش جاءه الخبر بحركة السلطان عبد العزيز إليه فانفض معسكره ولحق بتادلا ليعتصم بها في معقل بنى جابر وعاج السلطان بعساكره عن مراكش إليها فنازله وأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره وداخله بعض بني جابر في الإخلال بمصافة يوم الحرب على مال يعطيه لهم ففعلوا وانهزمت عساكر أبي الفضل وجموعه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إبراهيم إلى السلطان فاعتقله إلى أن قتله مع عامر عند مهلكه كما نذكره وفر الكناني إلى حيث لم يعلم مسقطه ثم لحق بعامر بن محمد ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة من ورائهم وداخلهم أشياع السلطان من بني جابر وبذلوا لهم المال الدثر في إسلامه فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون فجاء به أسيرا وأحضره السلطان فوبخه وقرعه واعتقله بفسطاط في جوازه ثم غط من الليل وكان مهلكه في رمضان من سنة تسع وستين وسبعمائة سنين من إمارته على مراكش وبعث السلطان إلى عامر يختبر طاعته بذلك فأبى عليه وجاهر بالخلاف إلى أن كان من شأنهما ما نذكره إن شاء الله تعالى..الخبر عن نكبة الوزير يحيى بن ميمون بن مصمود ومقتله: كان يحيى بن ميمون هذا من رجالات دولتهم وربى في دولة السلطان أبي الحسن وكان عمه علال عدوا له بعداوة أبيه ولما انتزى السلطان أبو عنان على ملك أبيه استخلص يحيى هذا سائر أيامه وهلك عمر يوم مهلكه كما ذكرناه واستعمل يحيى هذا ببجاية فلم يزل بها إلى أن تقبض عليه الموحدون لما استخلصوا بجاية من يده وسار إلى تونس واعتقل بها مدة ثم صرفوه إلى المغرب أيام عمر فاختص به ولما عقد له السلطان عبد العزيز على وزارته وكان قوي الشكيمة شديد الحزم صعب العداوة مرهف الحد وكان عمه علال بعد أن أطلقه السلطان من الاعتقال نكبه عن إذنه وأقامه متصرفا بين يديه فألقى إلى السلطان استبداد يحيى عليه وحذره من شأنه ورفع إليه أنه يروم تحويل الدعوة لبعض القرابة من آل عبد الحق وأنه داخل في ذلك قواد الجند من النصارى وأصاب الوزير وجع قعد به عن مجلس السلطان فاختلف الناس إلى زيارته وعكف ببابه قواد النصارى فاستريب بأمرهم وتيقن الأمر بعكوفهم فأرسل السلطان من حشمه من تقبض عليه وأودعه السجن ثم جنب إلى مصرعه من الغد وقتل قعصا بالرماح وقتل المتهمون من القرابة وقواد الجند واستلحموا جميعا وصاروا مثلا في الآخرين والأمر لله..الخبر عن حركة السلطان إلى عامر بن محمد ومنازلته بجبله ثم الظفر به: لما فرغ السلطان من شأن أبي الفضل عقد على مراكش لعلي بن محمد بن أجانا من صنائع دولتهم وأوعز إليه بالتضييق على عامر والأخذ بمخنقه لم إلجائه إلى الطاعة وانقلب إلى فاس واعتزم على الحركة إلى تلمسان وبينما هو في الاستنفار لذلك إذ جاءه الخبر بأن علي بن أنجانا نهض إلى عامر وحاصره أياما وأن عامرا زحف إليه ففض معسكره وتقبض على ابن أخانا والكثير من العسكر فاعتقلهم فقام السلطان في ركائبه وقعد واجمع أمره على النهوض إليه بكافة بني مرين وأهل المغرب فبعث في الحشود وبث العطاء وعسكر بظاهر البلد حتى استوفى الغرض وعقد على وزارته لأبي بكر بن الغازي بن يحيى بن الكاس لمكان فيه من مخايل الرياسة والكفاية وارتفع محله وارتحل سنة سبعين وسبعمائة فاحتل بمراكش ثم خرج إلى منازلة الجبل ونازله وكان عامر بن محمد قد نصب بعض الأعياص من آل عبد الحق من ولد أبي ثابت بن يعقوب اسمه تاشفين ولحق به علي بن عمر وبعلان من شيوخ بنى ورتاجن كبير بني مرين وصاحب الشورى فيهم لعهده فاشتد أزره به وتوافى به كثير من الجند النازعين عن السلطان رهبة من بأسه أو سخطة لحاله أو رغبة فما عند عامر فرتبهم وأمسك الله يده عن العطاء فلم تنس بقطرة وطال مثوى السلطان بساحته وعلى حصاره ورتب المقاعد للمقاتلة وغاداه للقتال وراوحه وتغلب على حصونه شيئا فشيئا إلى أن تغلق بأعلى جبل تامسكروط وكان لأبي بكر بن غازي غناء مذكور ويئس أصحاب عامر وأشياعه من عطائه وفسد ما بينه وبين علي بن عمر هذا فدس إلى السلطان يطلب الأمان وتوثق لنفسه ثم نزع إليه وداخله فارس بن عبد العزيز أخي عامر في القيام بدعوة السلطان والخلاف إلى على عمه لما كان يوثق به من إرهاف الحد وتفضيل ابنه أبي بكر عليه فبلغ خبره إلى السلطان واقتضى له وثيقة من الأمان والعهد بعث به إليه فثار بعمه واستدعى القبائل من الجبل فأجابوه واستحث السلطان للزحف إليهم فزحفت العساكر الجنود واستولت على معتصم الجبل ولما استيقن عامر أن قد أحيط به أوعز إلى ابنه أن يلحق بالسلطان مموها بالنزوع فألقى بنفسه إليه وبذل له الأمان وألحقه بجملته وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه ليخلص إلى السوس فرده الثلج وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام بردا وثلجا حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عامر وهلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين الهلكة العاجلة فرجع مخفيا أثره إلى غار أوى إليه مع أدلاء بذل لهم المال يسلكون به ظهر الجبل إلى الصحراء بالسوس وأقاموا ينتظرون إمساك الثلج وأقام وأغرى السلطان بالبحث عنه فدلهم عليه بعض البربر عثروا عليه فسيق إلى السلطان وأحضره ببن يديه ووبخه فاعتذر ونجع بالطاعة ورغب في الإقالة واعترف بالذنب فحمل إلى مضرب بنى له بازاء فسطاط السلطان واعتقل هنالك وتقبض يومئذ على محمد الكناني فاعتقل وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات والخرق ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد منهم واستولى السلطان على الجبل ومعاقله في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من يوم حصاره وعقد على هنتاتة لفارس بن عبد العزيز بن محمد ابن علي وارتحل إلى فاس واحتل بها أخر رمضان ودخلها في يوم مشهود برز فيه الناس وحمل عامر وسلطانه تاشفين على جملين وقد أفرغ عليهما الرث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان ذلك عبرة لمن رآه ولما قضى منسك الفطر أحضر عامر فقرعه بذنوبه وأوتي بكتابه بخطه يخاطب فيه أبا حمو ويستنجده على السلطان فشهد عليه وأمر به السلطان فامتحن ولم يزل يجلد حتى انتن لحمه وضرب بالعصي حتى ورمت أعضاؤه وهلك بين يدي الوزعة وأحضر الكناني ففعل به مثله وجنب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن إبراهيم من محبسه بعد الاعتقال فالحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجو للسلطان من المنازعين وفرغ لغزو تلمسان كما نذكره إن شاء الله تعالى.
|