الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن وزارة سليمان بن داود ونهوضه بالعساكر إلى إفريقية: لما رجع السلطان من إفريقية ولم يستتم فتحها بقي في نفسه منها شيء وخشي على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الزواودة المخالفين فأهمه شأنهم واستدعى سليمان بن داود من مكانه بثغور الأندلس وعقد له على وزارته وسرحه في العساكر إلى إفريقية فارتحل إليه في ربيع من سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان يعقوب بن علي لما كشف وجهه في الخلاف إلى أقام السلطان مكانه أخاه ميمون بن على منازعه وقدمه على أولاد محمد من الزواودة وأحله بمكانه من رياسة البدو والضواحي ونزع إليه عن أخيه يعقوب الكثير من قومهم وتمسك بطاعة السلطان طوائف من أولاد سباع بن يحيي وكبيرهم يومئذ عثمان بن يوسف بن سليمان فانحاشوا جميعا للوزير ونزلوا على معسكره بحللهم وارتحل السلطان في أثره حتى احتل بتلمسان فأقام بها لمشارفة أحواله منها واحتل الوزير سليمان بوطن قسنطينة وأغذ السير إلى عمال الزاب يوسف بن مزني بأن تكون يده معه وأن يؤامره في أحوال الزواودة لرسوخه في معرفتها فارتحل إليه من بسكرة ونازلوا جبل أوراس واقتضوا جبابته ومغارمه وشردوا المخالفين من الزواودة عن العيث في الوطن فتم غرضهم من ذلك وانتهى الوزبر وعساكر السلطان إلى أول أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح وانكفأ راجعا إلى المغرب ووافى السلطان بتلمسان ووصلت معه وفود العرب الذين أبلوا في الخدمة فوصلهم السلطان وخلع عليهم وحملهم وفرض لهم العطاء بالزاب وكتب لهم به وانقلبوا إلى أهلهم ووفد على أثرهم أحمد بن يوسف بن مزني أوفده أبوه بهدية السلطان من الخيل والرقيق والرزق فتقبلها السلطان وأكرم وفادته وأنزله واستصحبه إلى فاس ليريه أحوال كرامته وليستبلغ في الاحتفاء به واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وسبعمائة والله أعلم..الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان ونصب السعيد للأمر باستبداد الوزير حسن بن عمر في ذلك: لما وصل السلطان إلى دار ملكه بفاس احتل بها بين يدي العيد لأكبر حتى إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض وأعجله طائف الوجع عن الجلوس يوم العيد على العادة فدخل إلى قصره ولزم فراشه واستبد به وجعه وأطاف به النساء يمرضنه وكان ابنه أبو زيان ولى عهده وكان وزيره يحيى بن موسى القفولي من صنائع دولتهم وأبناء وزرائهم قد عقد له السلطان على وزارته واستوصاه به فتعجل الأمر وداخل رؤوس بني مرين فى الانحياش إلى أميرهم والفتك بالوزير الحسن بن عمر وداخله في ذلك عمر بن ميمون لعداوة بينهما وبين الوزير فخشيهما الحسن بن عمر على نفسه وفاوض عليه أهل المجلس بذات صدره وكانت نفرتهم عن ولي العهد مستحكمة لما أبلوا من سوء خلته وشر ملكته فاتفقوا على تحويل الأمر عنه ثم نمي إليهم أن السلطان مشرف على الهلكة لا محالة وأنه موقع بهم من قبل مهلكه فأجمعوا أمرهم على الفتك به والبيعة لأخيه السعيد طفلا خماسيا وباكروا دار السلطان فتقبضوا على وزيره موسى بن عيسى وعمر بن ميمون فقتلوهما وأجلسوا السعيد للبيعة وأوعز وزيره مسعود بن رحو بن ماسى بالتقبض على أبي زيان من نواحي القصر فدخل إليه وتلطف في إخراجه من بين الحرم وقاده إلى أخيه فبايع وتل إلى بعض حجر القصر فأتلف فها مهجته واستقل الحسن بن عمر بالأمر يوم الأربعاء الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة تسع وخمسين وسبعمائة والسلطان أثناء ذلك على فراشه يجود بنفسه وارتقب الناس دفنه يوم الأربعاء والخميس بعده فلم يدفن فارتابوا وفشا الكلام وارتاب الجماعة فأدخل الوزير زعموا إليه بمكانه من بيته من غطه حتى أتلفه ودفن يوم السبت وحجب الحسن بن عمر الولد المنصوب للأمر وأغلق عليه بابه وتفرد بالأمر والنهي دونه ولحق عبد الرحمن ابن السلطان أبي عنان بجبل الكاي يوم بيعة أخيه وكان أسن منه وإنما آثروه لمكان ابن عمه مسعود بن ماسي من وزارته فبعثوا إليه من لاطفه واستنزله على الأمان وجاء به إلى أخيه فاعتقله الحسن بالقصبة من فاس وبعث على أبناء السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور فجاء المعتصم من سجلماسة وامتنع المعتمد بمراكش وكان بها في كفالة عامر بن محمد الهنتاني استوصاه به السلطان وجعله هنالك لنظره فمنعه من الوصول وخرج به من مراكش إلى معقله من جبل هنتاتة وجهز الوزير العساكر لمحاربته ولم يزل هنالك إلى أن استنزله عمه السلطان أبو سالم عند استيلائه على ملك المغرب كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم..الخبر عن تجهيز العساكر إلى مراكش ونهوض الوزير سليمان بن داود لمحاربة عامر بن محمد: كان عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة من قبائل المصامدة وكان السلطان يعقوب قد استعمل أباه محمد بن علي على جبايتهم والسلطان أبو سعيد استعمل عمه موسى بن علي وربي عامر هذا في كفالة الدولة وسار في جملة السلطان إلى إفريقية وولاه السلطان أحكام الشرطة بتونس ولما ركب البحر إلى المغرب أركب حرمه وحظاياه في السفن وجعلهم إلى نظر عامر بن محمد وأجازوا البحر إلى الأندلس فنزلوا ألمرية وبلغهم غرق السلطان أبي الحسن وعسكره فأقام بهم بمكانه من ألمرية ودعى للسلطان أبي عنان فلم يجب داعية وفاء ببيعة أبيه حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بدارهم بالجبل ورعى لهم السلطان أبو عنان إجارتهم لأبيه حين لفظته البلاد وتحاماه الناس أجمع أمره على الوفادة عليه فوفد بمن معه من الحرم وأكرم السلطان أبو عنان وفادته وأحسن نزله ثم عقد له على جباية المصامدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة وبعثه لها من تلمسان فاضطلع بهذه الولاية وأحسن الغناء فيها والكفاية عليها حتى كان السلطان أبو عنان يقول: وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من سلطاني كما كفاني عامر بن محمد ناحية المغرب وأتورع ونافسه الوزراء في مقامه ذلك عند السلطان ورتبته وانفرد الحسن بن عمر آخر الأمر بوزارة السلطان واشتدت منافسته وانتهت إلى العداوة والسعاية.وكان السلطان بين يدي مهلكه ولى أبناءه الأصاغر على أعمال ملكه فعقد لابنه محمد المعتمد على مراكش واستوزر له وجعله إلى نظر عامر واستوصاه به فلما هلك السلطان واستقل الحسن بن عمر بالأمر ونضب السعيد للملك استقدم الأبناء من الجهات فبعث عن المعتمد من مراكش فأبى عليه عامر من الوفادة عليهم وصعد به إلى معقله من جبل هنتاتة وبلغ الحسن بن عمر خبره فجهز إليه العساكر وأزاح عللهم وعقد على حربه للوزير سليمان بن داود مساهمه في القيام بالأمر وسرحه في المحرم سنة ستين وسبعمائة فأغذ السير إلى مراكش واستولى عليها وصعد إلى الجبل فأحاط به وضيق على عامر وطاول منازلته وأشرف على اقتحام معقله إلى أن بلغه خبر افتراق بني مرين وخروج منصور بن سليمان من أعياص الملك على الدولة وأنه منازل للبلد الجديد فانفض العسكر من حوله وتسابقوا إلى منصور بن سليمان فلحق به الوزير سليمان بن داود وتنفس الحصار عن عامر إلى أن استولى السلطان أبو سالم على ملك المغرب في شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستقدم عامرا والمعتمد ابن أخيه من مكانهم بالجبل فقدم عليه وأسلمه إليه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
|