الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن شفاعة صاحب تونس في أولاد أبي العلاء ووصولهم إلى السلطان: كان عثمان بن أبي العلاء من أعياص آل عبد الحق شيخ الغزاة المجاهدين من زناتة والبربر بالأندلس وكان له فيها مقام معلوم في حماية الثغور ومدافعة العدو وغزو دار الحرب ومساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما نستوفي أخباره وكان السلطان أبو سعيد لما استصرخ بأهل الأندلس اعتذر بمكانه بينهم واشترط عليهم أن يمكنوه من قياده حف يقضي نوبة الجهاد فلم يسعفوه بذلك ولما هلك عثمان بن أبي العلاء قام بالأمر من بعده في مراسم الجهاد بنوه وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم أبي ثابت عامر وقويت عصابتهم بالموالي والأبناء وغلبت على يد السلطان يدهم واستبدوا عليه في أكثر الأحوال واستنكف لها وكان ذلك مما دعاه إلى القدوم على السلطان أبي الحسن وارتاب بنو أبي العلاء في إجازته إليه واتهموه على أنفسهم وأسعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره فلما تغلب المسلمون عليه وقضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة ما قضى كما ذكرناه واعتزم على القفول إلى حضرته أجمعوا الفتك به في طريقه وداخلوا في ذلك مولاه ابن المعلوجي لما أسفهم به من إرهاف حده والتضييق عليهم في جاههم فبرموا وطووا على البث حتى إذا وجدوا من أبي العلاء صاغية إلى ذلك خفوا إلى إجابتها ونذر بهم محمد بن الأحمر فبعث عن السفن تعرضه في طريقه وساحل إليهم وتسابقوا لشأنهم قبل فوته فأدركوه دون حصن أصطبونة وعتبوه فاستعتب وأغلظوا له في القول وقتلوا مولاه عاصما صاحب ديوان العطاء تجنيا عليه ونكر ذلك السلطان فتناولوه بالرماح قعصا وطعنا حتى أقعصوه ورجعوا إلى المعسكر فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي وجاؤا بأخيه أبي الحجاج يوسف بن أبي الوليد فبايعوا له وأصفقوا على تقديمه وسرح لحينه قائد ابن عزون فاستولى له على دار ملكه وتم أمره وحجبه رضوان مولى أبيهم واستبد عليه وسكن بين جنبيه من بنى أبي العلاء وقتلهم لأخيه داء دخيل حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد وأجاز المدد إلى ثغور عمله بالأندلس وعقد لابنه الأمير أبي مالك أسر إليهم في شأن بنى أبي العلاء بما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط عليهم في مثلها ووافق منه داعية لذلك فتقبض عليهم أبو الحجاج وأودعهم المطبق أجمع ثم أشخصهم في السفين إلى مراسي إفريقية فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى وبعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه فاعتقلهم ثم أوعز إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته فتوقف عنها وأبى من إخفار ذمتهم ووسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد السلطان فيهم غير ما ظنوا به من الشر ورغب ببعثهم إليه والمبالغة في الشفاعة فيهم علما بأن شفاعته لا ترد فأجابه لذلك وجنبوهم إليه مع ابن بكرون واتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتاب الشفاعة فيهم من السلطان وقدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة فتلقاهم بالبر والترحيب إكراما لشفيعهم وأنزلهم بمعسكره وجنب لهم المقربات بالمراكب الثقيلة وضرب لهم الفساطيط وأسنى لهم الخلع والجوائز وفرض لهم أعلى رتب العطاء وصاروا في جملته ولما احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة سعى عنده فيهم بأن كثيرا من المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثب على الملك فتقبض عليهم وأودعهم في السجن بمكناسة إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم..الخبر عن هدية السلطان إلى المشرق وبعثه بنسخ المصحف من خطه إلى الحرمين والقدس: كان للسلطان أبي الحسن مذهب في ولاية ملوك المشرق والكلف بالمعاهد الشريفة تقبله من سلفه وضاعفه لديه متن ديانته ولما قضى من أمر تلمسان ما قضى وتغلب كل المغرب الأوسط وصار أهل النواحي تحت ربقة منه واستطال بجناح سلطانه خاطب لحينه صاحب مصر والشام محمد بن قلاوون الملك الناصر وعرفه بالفتح وارتفاع العوائق عن الحاج في سابلتهم وكان فرانقه في ذلك فارس بن ميمون بن وردار وعاد بجواب الكتاب وتقرير المودة بين السلف وأجمع السلطان على كتب نسخة عتيقة من المصحف الكريم بخط يده ليوقفها بالحرم الشربف قربة إلى الله تعالى وابتغاء للمثوبة فانتسخها وجمع الوراقين لمعاناة تذهيبها وتنميقها والقراء لضبطها وتهذيبها حتى اكتمل شأنها وصنع لها وعاء مؤلفا من خشب الأبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة وغشى بصفائح الذهب ونظم الجوهر والياقوت واتخذ له أصونة الجلد المحكمة الصنعة وغشي بصفائح الذهب ونظم بالجوهر والياقوت واتخذت له أصونة الجلد المحكمة الصناعة المرقوم أديمها بخطوط الذهب من فوقها غلاف الحرير والديباج وأغشية الكتان وأخرج من خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القراء فيها وأوفد على الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر والشام خواص مجلسه وكبار أهل دولته مثل عريف بن يحيى أمير زغبة والسابق المقدم في بساطه على كل خالصة عطية بن مهلهل بن يحيى كبير الخولة وبعث كاتبه أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين وعريف الوزعة ببابه وصاحب دولته عبو بن قاسم المزوار واحتفل في الهدية للمزوار للسلطان صاحب مصر احتفالا تحدث الناس به دهرا ووقفت على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي مدين هذا الرسول ووعيته وأنسيته وذكر لي بعض قهارمة الدار أنه كان فيها خمسمائة من عتاق الخيل المقربات بسروج الذهب والفضة ولجمها خالصا ومغشي ومموها وخمسمائة حمل من متاع المغرب وما عونه وأسلحته ومن نسج الصوف المحكم ثيابا وأكسية وبرانس وعمائم وأزرا معلمة وغير معلمة ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملونا وغير ملون وساذجا ومنمقا ومن الدرق المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة بالدباغ المتعارف وتنسب إلى اللمط ومن خرثي المغرب وما عونه وما يستظرف صناعته بالمشرق حتى لقد كان فيها مكيل من حصى الجوهر والياقوت واعتزمت حظية من حظايا أبيه على الحج في ركابه ذلك فأذن لها واستبلغ في تكريمها واستوصى بها وافده وسلطان مصر في كتابه وفصلوا من تلمسان سنة وأدوا رساتهم إلى الملك الناصر وهديتهم فتقبلها وحسن لديه موقعها وكان يوم وفادتهم عليه بمصر يوما مشهودا تحدث به الناس دهرا ولقاهم في طريقهم أنواع البر والتكرمة حتى قضوا فرضهم ووضعوا المصحف الكريم حيث أمرهم صاحبهم وأسنى هدية السلطان من فساطيطهم الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب ومن ثياب الإسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب ورجعهم بها إلى مرسلهم وقد استبلغ في تكريمهم ووصلتهم وبقي حديث هذه الهدية مذكورا بين الناس لهذا العهد.ثم انتسخ السلطان نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأول ووقفها على القراءة بالمدينة وبعث بها من تحيره لذلك العهد من أهل دولته سنة واتصلت الولاية بينه وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسمعيل فخاطبه السلطان وأتحفه وعزاه عن أبيه وأوفد عليه كاتبه وصاحب ديوان الخراج أبا الفضل بن عبد الله بن أبي مدين فقضى من وفادته ما حمل وكان شأنه عجبا في إظهار أبهة سلطانه والأنفاق على المستضعفين من الحاج في طريقه واتحاف رجال الدولة التركية بدات يده والتعفف عما في أيديهم ثم شرع بعد استيلائه على إفريقية كما نذكره في كتاب نسخة أخرى من المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس فلم يقدر اتمامها وهلك قبل فراغه من نسخها كما نذكره إن شاه الله تعالى.
|