الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الفصل الثالث عشر: في علوم البشر وعلوم الملائكة: وما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته وترتيبها المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه كما هو مقرر في كلامهم في المنطق لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية وهذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية ويشترك في عالم الحس مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته وهي ذوات مجردة عن الجسمانية والمادة وعقل صرف يتحد فيه العقل والعاقل والمعقول وكأنه ذات حقيقتها الإدراك والعقل فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة. وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة فهو كله مكتسب والذات التي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا فشيئا حتى تستكمل ويصح وجودها بالموت في مادتها وصورتها فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي والإثبات دائما بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين فإذا حصل وصار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة وربما أوضحها البرهان الصناعي لكنه من وراء الحجاب وليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد في علمه وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية وكشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالإذكار التي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء والمنكر وبالتنزه عن المتناولات المهمة ورأسها الصوم وبالوجهة إلى الله بجميع قواه والله علم الإنسان ما لم يعلم. .الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: وفوق العالم البشري عالم روحاني شهدت لنا به الآثار التي فينا منه بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقل محض وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات وفي لمحة من اللمحات ثم تراجع بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة والأنبياء كلهم مفطورون عليه كأنه جبلة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة والغطيط ما هو معروف عنهم وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان لا يلحقه الخطأ والزلل ولا يقع فيه الغلط والوهم بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية لا تفارق علمهم الوضوح استصحابا له من تلك الحالة الأولى ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى: {إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه} فافهم ذلك وراجع ما قدمناه لك أول الكتاب في أصناف المدركين للغيب يتضح لك شرحه وبيانه فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا والله الموفق.
|