الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
وذكر لنا في أثناء ذلك أهله وأولاده في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العلية وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا فاقتضت آراؤنا الشريفة الكتابة إلى الحضرة العلية لهذين السببين الجميلين وقد آثرنا إعلام الحضرة العلية بذلك ليكون على خاطره الكريم والقصد من محبته يقدم أمره العالي بطلب أهل الشيخ ولي الدين المشار إليه وإزاحة أعذارهم وإزالة عوائقهم والوصية بهم وتجهيزهم إليه مكرمين محترمين على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ الصالح العارف السالك الأوحد سعد الدين مسعود المكناسي الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة للعلية مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ورعايتهم والتأكيد عليهم في هذا المعنى وإذا وصل من بها من البحرية كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم ويربي على أملهم بحيث يهتم بذلك على ما عهد من محبته وجميل اعتماده مع ما يتحف به من مراسلاته ومقاصده ومكاتباته والله تعالى يحرسه بملائكته وآياته بمنه ويمنه إن شاء الله كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحية بمصر من وقف صلاح الدين بن أيوب فولاني تدريسها مكانه وبينا أنا في ذلك إذ سخط السلطان قاضي المالكية في دولته لبعض النزعات فعزله وهو راج أربعة بعدد المذاهب يدعى كل منهم قاضى القضاة تمييزا عن الحكام يالنيابة عنهم لاتساع خطة هذا المعمور وكثرة عوالمه وما يرتفع من الخصومات في جوانبه وكبير جماعتهم قاضي الشافعية لعموم ولايته في الأعمال شرقا وغربا وبالصعيد والفيوم واستقلاله بالنظر في أموال اليتامى والوصايا ولقد يقال بأن مباشرة السلطان قديما بالولاية إنما كانت تكون له فلما عزل هذا القاضي المالكي سنة ست وثمانين وسبعمائة اختصني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري وشافهته بالتفادي من ذلك فأبى إلا إمضاءه وخلع علي بإيوانه وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين فقمت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود ووفيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله لا تأخذني في الله لومة ولا يرغبنى عنه جاه ولا سطوة مسويا بين الخصمين آخذا بحق الضعيف من الحكمين معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين جانحا إلى التثبت في سماع البينات والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات فقد كان البر منهم مختلطا بالفاجر والطيب ملتبسا بالخبيث والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء معلمون للقرآن وأئمة في الصلوات يلبسون عليهم بالعدالة فيظنون بهم الخير وبقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء والتوسل لهم فأعضل داؤهم وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال وتأدى لعلمي الجرح في طائفة منهم فمنعتهم من تحمل الشهادة وكان منهم كتاب الدواوين للقضاة والتوقيع في مجالسهم وتدربوا على إملاء الدعاوي وتسجيل الحكومات واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها وتوثيق شروطها فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم وتمويه على القضاة بجاههم يدرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم لتعرضهم لذلك بفعلاتهم وقد يسلط بعض قلمه على العقود المحكمة فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهي أو كتابي ويبادر إلى ذلك متى دعا الله داعي جاع أو منحة وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة مجهولة الأعيان عرضة للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا فيه سد الحظر والمنع حماية عن التلاعب وفشا من ذلك الضرر في الأوقاف وطرق الغرر في العقود والأملاك فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي وأحقدهم ثم التفت إلى أهل الفتيا بالمذهب وكان الحكام منهم على جانب الحيرة لكثرة معارضتهم وتلقينهم الخصوم وفتياهم بعد نفوذ الحكم وإذا فيهم أصاغر فبينما هم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف وأجازوها من غير مرتب ولا مستند للأهلية ولا مرشح إذ الكثرة فيهم بالغة ومن كثرة الساكن مشتقة وقلم الفتيا فى هذا المصر طلق وعنانها مرسل يتجاذب كل الخصوم منها رسنا ويتناول من حافته شقا يروم به الفتح على خصمه ويستظهر به لإرغامه فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه وكفاء أمنيته متتبعا إياه في شغب الخلاف فتتعارض الفتاوى وتتناقض وبعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم والخلاف في المذاهب كثير والإنصاف متعذر وأهلية المفتي وشهرة الإفتاء عندنا فلا يكاد هذا المدى ينحسم ولا الشغب ينقطع فصدعت في ذلك بالحق وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل ورددتهم على أعقابهم وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك ولا ينتمون إلى شيخ معروف مشهود ولا يعرف لهم كتاب في فن اتخذوا الناس هزوا وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومثابة للحرم فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدا وحقدوا علي وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة ليشرون بها الجاه ويجترؤوا به على الله وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم فيحكون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخصون به الإصلاح لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل فقطعت الحبل في أيديهم وأمضيت حكم الله فيمن أجازوه فلم يغنوا عن الله شيئا وأصبحت زواياهم مهجورة وبئرهم التي يمتاحون منها معطله وانطلقوا يواطؤن السفهاء من النيل في عرضي وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك وقول الزور ويبثونه في الناس ويدسون إلى السلطان التظلم مني فلا يصغي إليهم وأنا في ذلك محتسب على الله ما منيت به في هذا الأمر ومعرض فيه عن الجاهلين وماض على سبيل سوي من الصرامة وقوة الشكيمة وتحري العدالة وخلاص الحقوق والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها وصلابة العود عن الجاه والإعراض متى غمزني لامسها ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه منى ودعوني إلى متابعتهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ومراعاة الأعيان والقضاء للجاه بالصور الظاهرة أو دفع الخصوم إذا تعذرت بناء على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره وهم يعلمون أن قد تمالؤا عليه وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قضيت له من حق أخيه شيئا فإنما أقضي له من النار»فأبيت من ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها والوفاء لها ولمن قلدنيها فأصبح الجميع علي البا ولمن ينادي بالتأفف مني عونا وفي النكير علي أمة وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير وجه الحق لاعتمادي على علمي في الجرح وهي قضية إجماع وانطلقت الألسن وارتفع الصخب وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فتوقفت وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان فجمع القضاة وأهل الفتياء قي مجلس جعل للنظر في ذلك فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز وتبين أمرهم للسلطان وأمضيت فيها حكم الله تعالى إرغاما لهم فغدوا على حرد قادرين ودسوا الأولياء السلطان وعظماء الدولة يقبحون لهم إهمال جاههم ورد شفاعاتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إلي تبعث الحليم وتغري الرشيد يستثيرون حفائظهم علي ويشربونهم البغضاء إلي والله يجازيهم وسائلهم.فكثر الشغب علي من كل جانب وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة وووافق ذلك مصابي بالأهل والولد وصلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من الريح فغرقت وذهب الموجود والسكن والمولود فعظم المصاب والجزع ورجح الزهد واعتزمت على الخروج عن المنصب فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته خشية من نكير السلطان وسخطه فتوقفت بين الورد والصدر على صراط الرجاء واليأس وعن قريب تداركني اللطف الرباني وشملتني نعمة السلطان أيده الله في النظر بعين الرحمة وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها ولا عرفت كما زعموا مصطلحها فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها فانطلقت حميد الأثر مشيعا من الكافة بالأسد والدعاء وحميد الثناء تلحظني العيون بالرحمة وتتناجى الآمال في بالعودة ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته بالعافية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه عاكفا على تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف مؤملا من الله قطع صبابة العمر في العبادة ومحو عائق السعادة بفضل الله ونعمته.
|