الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن منازلة جبل الفتح واستئثار الأمير أبي مالك والمسلمين به: لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد المتغلب على ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش قام بالأمر بعده ابنه محمد طفلا صغيرا لنظر وزيره محمد بن المحروق من بيوت الأندلس وصنائع الدولة واستبد عليه فلما شب وناهز أنف من الاستبداد عليه وأغراه المعلوجي من حشمه بالوزير فاغتاله وقتله سنة تسع وعشرين وسبعمائة وشمر للاستبداد وشد أواخي الملك وكان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع وجاورت النصرانية به ثغور الفرضة وكان شجى في صدرها وأهم المسلمين شأنه وشغل عنهم صاحب المغرب بما كان فيه من فتنة ابنه فرجعوا الجزيرة وحصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشر وسبعمائه لأول المائة الثامنة واستغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك فرجعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة تسع وعشرين وسبعمائة وولى عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان بن مهلهل من عرب الخلط أخواله وأسف الطاغية إلى حصونها عند مهلك السلطان أبي سعيد فملك أكثرها ومنع البحر من الإجازة وقارن ذلك استبداد صاحب الأندلس وقتله لوزيره ابن المحروق وأهمه شأن الطاغية فبادر لإجازة البحر ووفد على السلطان أبي الحسن بدار ملكه من فاس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأكبر موصله وأركب الناس للقائه وأنزله بروض المصارة لصق داره واستبلغ في تكريمه وفاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر وما أهمهم من عدوهم وشكا إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدر الثغور فأشكاه السلطان وعامل الله في أسباب الجهاد وكان مشغوفا به متقبلا مذهب جده يعقوب فيه وعقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين وأنفذه مع السلطان محمد بن إسمعيل لمنازلة الجبل فاحتل بالجزيرة وتتابع إليه الأسطول بالمدد وأرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس فتسايلوا إليه وأضربوا معسكرهم جميعا بساحة الجبل وأبلوا في حربه ومنازلته البلاء الحسن إلى أن تغلبوا عليه سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واقتحمه المسلمون عنوة ونفلهم الله من كان به من النصرانية بما معهم ووافاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه وقد شحنه المسلمون بالأقوات نقلوها من الجزيرة على خيولهم وباشر نقلها الأمير أبو مالك وابن الأحمر فنقلها الناس عامة وتحيز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة وترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه ووصل الطاغية بعد ثلاث فأناخ عليه وبرز أبو مالك بعساكره فنزل بحزائه وبعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس فوصل بحشد المسلمين بعد أن دوخ أرض النصرانية وخرج فنزل بازاء عسكر الطاغية وتحصن العدو في محلتهم وقاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه وخفة ما به من الحامية والسلاح فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية وسبق الناس إلى فسطاطه عجلا بائعا نفسه من الله في رضى المسلمين وسد فرجتهم فتلقاه الطاغية راجلا حاسرا إعظاما لموصله وأجابه إلى ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل وأتحفه بذخائر مما لديه وارتحل لفوره وأخذ الأمير أبو مالك في تثقيف أطراف الثغر وسد فروجه وأنزل الحامية به ونقل الأقوات إليه وكان فتحا طوق دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر إلى آخر الأيام ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان والله تعالى أعلم..الخبر عن حصار تلمسان وتغلب السلطان أبي الحسن عليها وانقراض أمر بني عبد الواد بمهلك أبي تاشفين: لما تغلب السلطان على أخيه وحسم علة انتزائه ومنازعته وسد ثغور المغرب وعظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية وارتجاع جبل الفتح من أيديهم بعد أن أقام في ملكة الطاغية نحوا من عشرين سنة فرغ لعدوه وأجمع على غزو تلمسان ووفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح والأخذ بحجزة أبي تاشفين على الثغور وأوفد السلطان إلى أبي تاشفين شفعاء في أن يتخلى عن عمل الموحدين جملة ولتراجع لهم عن تدلس ويرجع إلى تخوم عمله منذ أول الأمر ولو عامئذ ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك ويقدروه حق قدره واستنكف أبو تاشفين مع ذلك وأغلظ للرسل في القول وأفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبيد في الرد عليهم والنيل من مرسلهم فانقلبوا إليه بما أحفظه فانبعثت عزائم السلطان للصمود إليهم وعسكر بساحة البلد الجديد وبعث وزراءه إلى قاصية البلاد المراكشية لحشد القبائل والعساكر ثم تعجل فاعترض جنوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وسار في التعبية وفصل بمعسكره من فاس أواسط خمس وثلاثين وسبعمائة وسار يجر الشوك والمدر من أمم المغرب وجنوده ومر بوجدة فجمر الكتائب لحصارها ثم مر بند رومة فقاتلها بعض يوم واقتحمها فقتل حاميتها واستولى عليها آخر سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ثم سار على تعبيته حتى أناخ على تلمسان وبلغه الخبر بتغلب عساكره على وجدة سنة ست وثلاثين وسبعمائة فأوعز إليه بتخريب أسوارها فأضرعوها بالأرض وتوافت إليه إمداد النواحي وجهاتها وحشودها وربض على فريسته ووفدت إليه قبائل مغراوة وبني توجين فآتوه طاعتهم ثم سرح عساكره إلى الجهات فتغلب على وهران وهنين ثم على مليانة وتنس والجزائر كذلك سنة ست وثلاثين وسبعمائة ونزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من عمله والمتاخم كان لعمل الموحدين والقائم بحصار بجاية بعد نكبة موسى بن علي فلقاه مبرة وتكريما ورفع بساطه ونظمه في طبقات وزرائه وجلسائه وعقد على فتح البلاد الشرقية ليحيى ابن سليمان العسكري كبير بنى عسكر بن محمد وشيخ بنى مرين وصاحب شوراهم بمجلس السلطان والمخصوص بصهر من السلطان عقد له على ابنته فسار في الألوية والجنود وطوع ضاحية الشرق وقبائله وافتتح أمصاره حتى انتهى إلى ألمرية ونظم البلاد في طاعة السلطان وأحشد مقاتلتها إلى معسكره فلحقوا له وكاثروا جنوده واستعمل السلطان على وانشريش وعمل الحشم من بني توجين وعقد لسعد بن سلامة بن على كل بني يدللتن وجعل الوالي بالقلعة إلى نظره وكان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعا عن أبي تاشفين لمكان أخيه قريعه محمد من الدولة واستعمل السلطان أيضا على شلف وسائر أعمال المغرب الأوسط واختط السلطان بغربي تلمسان البلد الجديد لسكناه ونزل عساكره وسماه المنصورية وأدار على البلد المخروب سياجا من السور ونطاقا من الخندق ونصب المجانيق والآلات من وراء خندقه وشيد قبالة كل برج من أبراج البلد برجا على ساقة خندقه ينضح رماته بالنبل رماتهم ويشغلونهم بأنفسهم حتى شيد برجا آخر أقرب منه وترتفع شرفاته فوق خندقهم ولم يزل يتقرب بوضع الأبراج من حد إلى ما بعده حتى اختطها من قرب على ساقه خندقهم وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعيالها ورتب المجانيق إلى رجمها ودكها فنالت من ذلك فوق الغاية واشتد الحرب وضاق نطاق الحصار وكان السلطان يصحبهم كل يوم بالبكور والتطواف على البلد من جميع جهاته لتفقد المقاتلة في مراكزهم وربما ينفرد في طوافه بعض الأيام عن حاشيته فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرة وصفوا جيوشهم من وراء السور مما يلي الجبل المطل على البلد حتى إذا حاذاه السلطان في تطوافه فتحوا أبوابهم وأرسلوا عليه عقبان جنودهم واضطروه إلى سفح الجبل حتى لحق بأوعاره وكاد أن ينزل عن فرسه هو ووليه عريف بن يحيى أمير سويد ووصل الصائح إلى المعسكر فركب الأميران ابناه: أبو عبد الرحمن وأبو مالك في جموع بني مرين وتهاوت فرسان المعسكر من كل جانب فشمر جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم ثم دفعوهم عنها وحملوهم على هوة الخندق فتطارحوا فيه وترادفوا وهلك بالكظيظ أكثر ممن هلك بالقتل واستلحم في ذلك اليوم زعماء ملئهم مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بنى توجين ومحمد بن سلامة بن علي كبير بنى يدللتن منهم أيضا وغيرهم وكان يوما له ما بعده واعتز بنو مرين عليهم من يومئذ ونذر بنو عبد الواد بالتغلب عليهم واتصلت الحرب مدة عامين ثم اقتحمها السلطان غلابا لسبع وعشرين من رمضان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ووقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصته وقاتل هنالك حتى قتل ابناه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن علي وولته عبد الحق بن عثمان من أعياص عبد الحق نزع إليه من جملة الموحدين كما أشرنا إليه ونستوفي خبره فهلك هو وابنه وابن أخيه وأثخنت السلطان أبا تاشفين الجراحة ووهن لها فتقبض عليه واختبنه بعض الفرسان إلى السلطان فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب وأورد غمرتها بنفسه فاعترضه وقد غض الطرف بموكبه فأمر به في الحين فقتل واحتز رأسه وسخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه وتقريعه وذهب مثلا في الغابرين واقتحم السلطان بكافة عساكره وتواقع الناس بباب كشوط لجنوبهم من كظيظ الزحام فهلك منهم أمم وانطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرات في أموالهم وحرمهم وخلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمة من خواصه وحاشيته واستدعى شيوخ الفتيا بالبلد أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام وفاء بحق العلم وأهله فخلصوا إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب فركب لذلك بنفسه وسكن وأوزع جنوده وأشياعه من الرعية وقبض أيديهم عن الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد وقد كمل الفتح وعز النصر وشهد ذلك اليوم أبو محمد بن تاقراكين وافاه رسولا عن مولانا السلطان أبي يحيى مجددا للعهد فأعجله السلطان إلى مرسله بالخبر وسابق السابقين ودخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح فعظم السرور عند السلطان أبي يحيى بمهلك عدوه والانتقام منه بشارة واعتدها بمساعيه ورفع السلطان أبو الحسن القتل عن بنى عبد الواد أعدائهم وشفى نفسه بقتل سلطانهم وعفا عنهم وأثبتهم في الديوان وفرض لهم العطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم وجمع كلمة بنى واسين من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين وسائر زناتة وأنزلهم ببلاد المغرب وسد بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله وساروا عصبا تحت لوائه فأنزل منهم بقاصية السوس وبلاد غمارة وأجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا في جملته واتسع نطاق ملكه وأصبح ملك زناتة بعد أن كان ملك بنى مرين وسلطان العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
|