الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
اعلم أنه ما برحت جزيرة الروضة منتزهًا ملوكيًا ومسكنًا للناس كما تقدّم ذكره إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب سلطنة مصر فأنشأ القلعة بالروضة فعرفت بقلعة المقياس وبقلعة الروضة وبقلعة الجزيرة وبالقلعة الصالحية وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان وابتدأ بنيانها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشرة وفي عاشر ذي القعدة وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة وتحوّل الناسمن مساكنهم التي كانوا بها وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس وأدخلها في القلعة وأنفق في عمارتها أموالًا جمة وبنى فيها الدور والقصور وعمل لها ستين برجًا وبنى بها جامعًا وغرس بها جميع الأشجار ونقل إليها عمد الصوّان من البرابي وعمد الرخام وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد والأقوات خشية من محاصرة الفرنج فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة حتى قيل أنه استقام كل حجر فيها بدينار وكل طوبة بدرهم وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يُعمل فصارت تدهش من كثرة زخرفتها وتحير ويقال أنه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه وخرب الهودج والبستان المختار وهدّم ثلاثة وثلاثين مسجدًا عمرها خلفاء مصر وسراة المصريين لذكر الله تعالى وإقامة الصلوات واتفق له في عدم بعض هذه المسجد خبر غريب قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أ مد بن محمود بن أحمد الأسدي الشهير باليغموري: سمعتُ الأمير الكبير الجواد جمال الدين أبا الفتح موسى بن الأمير شرف الدين يغمور بن جلدك بن عبد الله قال: ومن عجيب ما شاهدته من الملك الصالح أبي الفتح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل رحمه الله تعالى أنه أمرني أن أهدم مسجدًا كان في جوار داره بجزيرةمصر فاخرت ذلك وكرهت أن يكون هدمه على يديّ فأعاد الأمر وأنا أكاسر عنه وكأنه فهم مني ذلك فاستدعى بعض خدمه من نوّابي وأنا غائب وأمره أن يهدم ذلك المسجد وأنيبني في مكانه قاعة وقدّر له صفاتها فهدم ذلك المسجد وعمر تلك القاعة مكانه وكملت وقدمت الفرنج إلى الديار المصريى وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في المكان الذي كان مسجدًا فتوفي السلطان في المنصورة وجعل في مركز وأتى به إلى الجزيرة فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدّة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدارسه بالقاهرة في جانب القصر عفا الله عنه وكان النيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة من الجانب الغربيّ فيما بين الروضة وبرّ الجيزة وقد انطرد عن برّ مصر ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة فلم يزل يغرق السفن في البرّ الغربيّ ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال حتى عاد ماء النيل إلى برّ مصر واستمرّ هناك فأنشأ جسرًا عظيمًا ممتدًّا من برّ مصر إلى الروضة وجعل عرضه ثلاث قصبات وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البرّ ويمشون في طول هذا الجسر إلى القلعة ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبًا سوى السلطان فقط ولما كملت تحوّل إليها بأهله وحرمه واتخذها دار مُلك وأسكن فيها معه مماليكه البحرية وكانت عدّتهم نحو الألف مملوك. قال العلامة عليّ بن سعيد في كتاب المغرب: وقد ذكر الروضة هي أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة وبها مقياس النيل وكانت منتزهًا لأهل مصل فاختارها الصالح بن الكامل سرير السلطنة وبنى بها قلعة مسوّرة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك لم ترعيني أحسن منه وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر خليفة مصر لزوجته البدوية التي هام في حبها والمختار بستان الإخشيد. وقصره وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطيّ: كانَّ مجرّةَ الجوز أحاطتْ وأثبتَتِ المنازلُ في المنازلُ وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فزجهيني ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدريّ اللون ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها وهو من أعظم السلاطين همة في البناء وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانًا لجلوسه لم ترعيني مثاله ولا أقدّر ما أنفق عليه وفيه من صفائح الذهب والرخام الأبنوسيّ والكافوريّ والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة وفي بعضها حاظر حظر به على أصناف الوحوش التي يتفرّج عليها السلطان وبعدها مروج ينقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر وقد تفرّجت كثيرًا في طرف هذه الجزيرة مما يلي برّ القاهرة فقطعت فهي عشيات مذهبات لم تزل لأحزان الغربة مذهبات وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكلية وفي أيام احتراق النيل يتصل برّها ببرّ الفسطاط من جهة خليج القاهرة ويبقى موضع الجسر فيه مراكب وركبت مرّة هذه النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن ندا وزير الجزيرة وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلالأ والنيل قد انقسم عنها فقلت: تأمّل لحسن الصالحيةِ إذْ بدتْ وأبراجها مثلُ النجومِ تلالا ووافى إليها النيلُ من بعد غايةٍ كما زارَ مشغوفٌ يرومُ وصالا وعانقها من فرطِ شوقٍ لحسنها فمدّ يمينًا نحوها وشمالا جرى قادمًا بالسعدِ فاختط حولها من السعدِ أعلامًا فزاد دلالا ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولت بني أيوب فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أوّل ملوك الترك بمصر أمر بهدمها وعمر منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر ومع في القلعة من له جاه فأخذ جماعة منها عدّة سقوف وشبابيك كثيرة وغير ذلك وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري اهتم بعمارة قلعة الروضة ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى إعادتها كما كانت فأصلح بعض ما تهدّم فيها ورتب فيها الجاندارية وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة وأمر بأبراجها ففرّقت على الأمراء وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاون الألفيّ والبرج يليه للأمير ز الدين الحليّ والبرج الثالث من بروج الزاوية للأمير عز الدين أرغان وأعطى برج الزاوية الغربيّ للأمير بدر الدين الشمسي وفرّقت بقية الأبراج على سائر الأمراء ورسم أ تكن بيتوتات جميع الأمراء واصطبلاتهم فيها وسلم المفاتيح لهم. فلما تسلطن الملك المنصور قلاون الألفي وشرع في بناء المارستان والقبلة والمدرسة المنصورية نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من عمد الصوّان وعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة في البرابي وأخذ منها رخامًا كثيرًا وأعتابًا جليلة مما كان فيه البرابي وغير ذلك ثم أخذ منها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ما احتاج إليه من عمد الصوّان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل والجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر وأخذ غاير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن وتأخر منها عقد جليل تسميه العامّة القوس كان مما يلي جانبها الغربيّ أدركناه باقيًا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة وبقي من أبراجها عدّة قد انقلب أكثرها وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل. قال ابن المتوّج: ثم اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المعروفة اليوم بالروضة في شعبان سنة ست وستين وخمسمائة وإنما سميت بالروضة لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها وبحر النيل حائز لها ودائر عليها وكانت حصينة وفيها من البساتين والعمائر والثمار ما لم يكن في غيرها ولما فتح عمرو بن العاص مصر تحصن الروب بها مدّة فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرّب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها وكانت مستديرة عليها واستمرّت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ولم يزل هذا الحصن حتى خرّبه النيل ثم اشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر المذكور وبقيت على ملكه إلى أن سيّر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ومعه عمه الملك العادل وكتب إلى الملك المظفر بأن يسلم لهما البلاد ويقدم عليه إلى الشأم فلما ورد عليه الكتاب ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل شق عليه خروجه من الديار المصرية وتحقق أنه لا عود له إليها أبدًا فوقف هذه المدرسة التي تعرف اليوم في مصر بالمدرسة التقوية التي كانت تعرف بمنازل العزو وقف عليها الجزيرة بكاملها وسافر إلى عمه فملْكه حماه ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد العليّ بن عبد القادر السكريّ مدرّس المدرسة المذكورة لمدّة ستين سنة في دفعتين كل دفعة قطعة فالقطعة الأولى من جامع غين إلى المناظر طولًا وعرضً من البحر إلى البحر واستأجر القطعة الثانية وهي باقي أرض الجزيرة بما فيها من النخل والجميز والغروس فإنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخيل ودخلت في العمائر وأمّا الجميز فإنه كان بشاطىء بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع قُطعت جميعها في الدولة الظاهرية وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان قد سيرها إلى جزيرة قبرس ثم سلم المدرّس التقوية القطعة المستأجرة من الجزيرة أوّلًا في سنة ثمان وتسعين وستمائة وبقي بيد السلطان القطعة الثانية وقد خربت قلعة الروضة ولم يبق منها سوى أبراج قد بنى الناس عليها وبقي أيضًا عقد باب من جهة الغرب يقال له باب الإصطبل وعادت الروضة بعد هم القلعة منها منتزهًا يشتمل على دور كثيرة وبساتين عدّة وجوامع تقام بها الجماعات والأعياد ومساجد وقد خُرب أكثر مساكن الروضة وبقي فيها إلى اليوم بقايا. وبطرف الروضة المقياس الذي يقاس فيه ماء النيل اليوم ويقال له المقياس الهاشميّ وهو آخر مقياس بني بديار مصر. قال أبو عمر الكنديّ: وورد كتاب المتوكل على الله بابتناء المقياس الهاشميّ للنيل وبعزل النصارى عن قياسه فجعل يزيد بن عبد الله بن دينار أمير مصر أبا الردّاد المعلم وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب الخراج في كل شهر سبعة دنانير وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين وعلامة وفاء النيل ستة عشر ذراعًا أن يسبل أبو الردّاد قاضي البحر الستر الأسود الخليفيّ على شباك المقياس فإذا شاهد الناس هذا الستر قد اسبل تباشروا بالوفاء واجتمعوا على العادة للفرجة من كل صوب وما أحسن قول شهاب الدين بن العطار في تهتك الناس يوم تخليق المقياس: ستر الإله علينا لا يزالُ فما أحلى تهتكنا والسترُ مسبولُ جزيرة الصابوني: هذه الجزيرة تجاه رباط الآثار والرباط من جملتها وقفها أبو الملوك نجم الدين أيوب بن شادي وقطعة من بركة الحبش فجعل نصف ذلك على الشيخ الصابوني وأولاده والنصف الآخر على صوفية بمكان بجوار قبة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه يعرف اليوم بالصابوني. جزيرة الفيل: هذه الجزيرة هي الآن بلد كبير خارج باب البجر من القاهرة وتتصل بمنية الشريج من بحريها ويمرّ النيل من غربيها وبها جامع تقام به الجمعة وسوق كبير وعدّة بساتين جليلة وموضعها كله مما كان غامرًا بالماء في الدولة الفاطمية. فلما كان بعد ذلك انكسر مركب كبير كان يُعرف بالفيل وترك في مكانه فربا عليه الرمل وانطرد عنه الماء فصارت جزيرة فيما بين المنية وأرض الطبالة سماها الناس جزيرة الفيل وصار الماء يمرّ من جوانبها فغربيها تجاه برّ مصر الغربيّ وشرقيها تجاه البعل والماء في بينها وبين البعل الذي هو الآن قبالة قناطر الأوز فإنْ الماء كان يمرّ بالمقس من تحت زريبة جامع المقس الموجود الان على الخليج الناصريّ ومن جامع المقس على أرض الطبالة إلى غربي المصلى حتى ينتهي من تجاه التاج إلى المنية وصارت هذه الجزيرة في وسط النيل وما برحت تتسع إلى أن زرعت في أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فوقفها على المدرسة التي أنشأها بالقرافة بجوار قبر الشافعيّ رضي الله عنه وكثرت أطيانها بانحسار النيل عنها في كل سنة. فلما كان في أيام الملك المنصور قلاون الألفي تقرّب مجد الدين أبو الروح عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن بن الخشاب المتحدّث في الأحباس إلى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ بأنّ في أطياب هذه الجزيرة زيادة على ما وقفه السلطان صلاح الدين فأمر بقياس ما تجدّد بها من الرمال وجعلها لجهة زيادة على ما وقفه السلطان صلاح الدين فأمر بقياس ما تجدّد بها من الرمال وجعلها لجهة الوقف الصلاحيّ وأقطع الأطياب القديمة التي كانت في الوقف وجعلها هي التي زادت فلما أمر الملك المنصور قلاون بعمل المارستان المنصوري وقف بقية الجزيرة عليه فغرس الناس بها الغروس وصارت بساتين وسكن الناس من المزارعين هناك فلما كانت أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد عوده إلى قلعة الجبل من الكركل وانحسر النيل عن جانب المقس الغربيّ وصار ما هنالك رمالًا متصلة من بحريها بجزيرة الفيل المذكورة ومن قبليها بأراضي اللوق افتتح الناس باب العمارة بالقاهرة ومصر فعمروا في تلك الرمال المواضع التي تعرف اليوم ببولاق خارج المقس وأنشأوا بجزيرة الفيل البساتين والقصور واستجدّا ابن المغربيّ الطبيب بستانًا اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي بنحو المائة ألف درم فضة عنها زهاء خمسة آلاف مثقال ذهبًا وتابع الناس في إنشاء البساتين حتى لم يبق بها مكان بغير عمارة وحكر ما كان منها وقفًا على المدرسة المجاورة للشافعيّ رضي الله عنه وما كان فيها من وقف المارستان وغرس ذلك كله بساتين فصارت تنيف على مائة وخمسين بستانًا إلى سنة وفاة الملك الناصر محمد بن قلاون ونصب فيها سوق كبير يباع فيه أكثر ما يطلب من المآكل وابتنى الناس بها عدّة دور وجامعًا فبقيت قرية كبيرة وما زالت في زيادة ونموّ فأنشأ قاضي القضاة جلال الدين الغزويني رحمه الله الدار المجاورة لبستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب على النيل فجاءت في غايى من الحسن فلما عزل عن قضاء القضاة وسار إلى دمشق اشتراها الأمير بشتاك بثلاثين ألف درهم وخربها وأخذ منها رخامًا وشبابيك وأبوابًا ثم باع باقي نقضها بمائة ألف درهم فربح الباعة في ذلك شيئًا كثيرًا ونودي على زر بيتها فحكرت وعمر عليها الناس عدّة أملاك واتصلت العمارة بالأملاك من هذه الزريبة إلى منية الشيرج ثم خربت شيئًا بعد شيء وبقي ما على هذه الزريبة من الأملاك وهي تعرف اليوم بدار الطنبديّ التاجر. وأما بساتين الجزيرة فلم تزل عجبًا من عجائب الدنيا من حسن المنظر وكثرة المتحصل إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة فتلاشت وخرب كثير منها لغلوّ العلوفات من الفول والتبن وشدّة ظلم الدولة الدولة جزيرة أروى: هذه الجزيرة تعرف بالجزيرة الوسطى لأنها فيما بين الروضة وبولاق وفيما بين برّ القاهرة وبرّ الجيزة لم ينحسر عنها الماء إلا بعد سنة سبعمائة وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين ابو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ عن الطبيب الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني أنه كان يمرّ بهذه الجزيرة أوّل ما انكشفت ويقول هذه الجزيرة تصير مدينة أو قال تصير بلدة على الشك مني فاتفق ذلك وبنى الناس فيها الدور الجليلة والأسواق والجامع والطاحون والفرن وغرسوا فيها البساتين وحفروا الآبار وصارت من أحسن منتزهات مصر يحف بها الماء ثم صار ينكشف ما بينها وبين برّ القاهرة فإذا كانت أيام زيادة ماء النيل أحاد الماء بها وفي بعض السنين يركبها الماء فتمرّ المراكب بين دورها وفي أزقتها. ثم لما كثر الرمل فيما بينها وبين البرّ الشرقيّ حيث كان خط الزريبة. وفم الخور قلّ الماء هناك وتلاشت مساكن هذه الجزيرة منذ كانت الحوادث في سنة ست وثمانمائة وفيها إلى اليوم بقايا حسنة. الجزيرة التي عرفت بحليمة: هذه الجزيرة خرجت في ستة سبع وأربعين وسبعمائة ما بين بولاق والجزيرة الوسطى مستها العامّة بحليمة ونصبوا فيها عدّة أخصاص بلغ مصروف الخص الواحد منها ثلاثة آلاف درهم نقرة في ثمن رخام ودهان فكان فيها من هذه الأخصاص عدّة وافرة وزرع حول كل خص من المقائي وغيرها ما يستحسن وأقام أهل الخلاعة والمجون هناك وتهتكوا بأنواع المحرمات وتردّد إلى هذه الجزيرة أكثر الناس حتى كادت القاهرة أن لا يثبت بها أحد وبلغ أجرة كل قصبة بالقياس في هذه الجزيرة وفي الجزيرة التي عرفت بالطمية فيما بين مصر والجيزة مبلغ عشرين درهمًا نقرة فوقف الفدّان هناك بمبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة ونصبت في هذه الافدنة الأخصاص المذكورة وكان الانتفاع بها فيما ذكر نحو ستة أشهر من السنة فعلى ذلك يكون الفدّان فيها بمبلغ ستة عشر ألف درهم نقرة وأتلف الناس هناك من الأموال ما يجل وصفه فلما كثر تجاهرهم بالقبيح قام الأمير أرغون العلائيّ مع الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون في هدم هذه الأخصاص التي بهذه الجزيرة قيامًا زائدًا حتى أذن له في ذلك فأمر والي مصر والقاهرة فنزلا على حين غفلة وكبسا الناس وأراقا الخمور وحرّقا الأخصاص فتلف للناس في النهب والحريف وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية والنهاية. وفي هذه الجزيرة يقول الأديب إبراهيم المعمار: جزيرةُ البحرِ جُنَّتْ بها عقولٌ سليمةْ لما حوتْ حسنُ مغنى ببسطةٍ مستقيمة وكمْ يخوضونَ فيها وكمْ مشوا بنميمةْ السجون قال ابن سيده: السجن الحبس والسجانُ صاحب السجن ورجل سجين مسجون. قال: وَحَبَسَهُ يحبسهُ حبسًا فهو محبوسٌ وحبيس واحتبسه وحبسه أمسكه عن وجهه. وقال سيبويه: حبسه ضبطه واحتبسه اتخذه حبسًا والمحبس والمحبسة والمحتبس اسم الموضع. وقال بعضهم: المحبس يكون مصدرًا كالحبس ونظيره إلى الله مرجعكم أي رجوعكم. ويسألونك عن المحيض أي الحيض. وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه رضي الله عنهم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يومًا وليلة فالحبس الشرعيّ ليس هو السجن في مكان ضيق وإنما هو تعويض الشخص ومنعه من التصرّف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد أو كان يتولى نفس الخصم أو وكيله عليه وملازمته له ولهذا سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم أسيرًا كما روى أبو داود وابن ماجه عن الهرمس بن حبيب عن أبيه رضي الله عنهما. قال: " أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي: الزمه ثم قال لي يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك " وفي رواية ابن ماجه ثمّ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ولم يكن له محبس معدّ لحبس الخصوم ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابتاع من صفوان بن أمية رضي الله عنه دارًا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنًا يحبس فيها. ولهذا تنازع العلماء هل يتخذ الإمام حبسًا على قولين فمن قالا لا يتخذ حبسًا احتج بأنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته من بعده حبس ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة أو يقيم عليه حافظًا وهو الذي يُسمى الترسيم أو يأمر غريمه بملازمته. ومن قال له أن يتخذ حبسًا احتج بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومضت السنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أنه لا يحبس على الديون ولكن يتلازم الخصمان. وأوّل من حبس على الدين شريح القاضي وأمّا الحبس الذي هو الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين وذلك أنه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم غير متمكنين من الوضوء والصلاة وقد يرى بعضهم عورة بعض ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء وربما يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جدة له وأنّ أصل حبسه على ضمان وأمّ سجون الولاة فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا وهم يصرخون في الطرقات الجوع فما تصدّق به عليهم لا ينالهم منه إلاّ ما يدخل بطونهم وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته وهم مع ذلك يستعملون في الحفر وفي العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة والأعوان تستحثهم فإذا انقضى عملهم ردّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئًا. إلى غير ذلك مما لا يسع حكايته هنا. وقد قيل أن أوّل من وضع السجن والحرس معاوية. وقد كان في مدينة مصر وفي القاهرة عدّة سجون وهي حبس المعونة بمصر وحبس الصيار بمصر وخزانة البنود بالقاهرة وحبس المعونة بالقاهرة وخزانة شمائل وحبس الديلم وحبس الرحبة والجب بقلعة الجبل. حبس المعونة بمصر: ويُقال أيضًا: دار المعونة كانت أوّلًا تُعرف بالشرطة وكانت قبليذ جامع عمرو بن العاص وأصله خَطَّهُ قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ رضي الله عنهم اختطها في أول الإسلام وكان كان موضعها فضاء. وأوصى فقال: إن كنت بنيت بمصر دارًا واستعنت فيها بمعونة المسلمين فهي للمسلمين ينزلها ولاتهم. وقيل بل كانت هي ودار إلى جانبها لنافع بن عبد قيس الفهريّ وأخذها منه قيس بن سعد وعوّه دارًا بزقاق القناديل. ثم عرفت بجار الفلفل لأنّ أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب خراج مصر ابتاع من موسى بن وردان فلفلًا بعشرين ألف دينار كان كتب فيها الوليد بن عبد الملك ليهديه إلى صاحب الروم فخزّنه فيها فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين تولى الخلافة فكتب أن تدفع إيه. ثم صارت شرطة ودار الصرف فلما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من زيادة عبد الله بن طاهر في الجامع بنى شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين في خلافة المأمون ونقش في لوح كبير نصبه على باب الجامع الذي يدخل منه إلى الشرطة ما نصه: بركة من الله لعبده عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين أمر بقامة هذه الدار الهاشمية المباركة على يد عيسى بن يزيد الجلوديّ مولى أمير المؤمنين سنة ثلاث عشرة ومائتين ولم يزل هذا للوح على باب الشرطة إلى صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فقلعة يانس العزيزي وصارت حبسًا يعرف بالمعونة إلى أن ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فجعله مدرسة وهي التي تعرف اليوم بالشريفية. حبس الصيَّار: هذا الحبس كان بمصر يُحبس فيه الولاة بعدما عمل حبس المعونة مدرسة وكان بأوّل الزقاق الذي فيه هذا الحبس حانوت يسكنه شخص يقال له منصور الطويل ويبيع فيه أصناف السوقة ويُعرف هذا الرجل بالصيار من أجل أنه كانت له في هذا الزقاق قاعة يخزن فيها أنواع الصير المعروف بالملوحة فقيل لهذا الحبس حبس الصيار ونشأ لمنصر الصيار هذا ولد عرف بين الشهود بمصر بشرف الدين بن منصور الطويل فلما أحدث الوزير شرف الدين هبتة الله بن صاد الفائزيّ المظالم في سلطنة الملك المعز أيبك التركمانيّ خدم شرف الدين هذا على المظالم في جباية التسقيع والتقويم ثم خدم بعد إبطال ذلك في مكس القصب والرمّان فلما تولى قضاء القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز تأذى عنده بما باشره من هذه المظالم وما زال هذا الحبس موجودًا إلى أن خربت مصر في الزمان الذي ذكرناه فخرب وبقي موضعه وما حوله كيمانًا.
|