الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال الخليل: أصله من أن النبات والشعر يئث إذا كثر. قيل: إنه تعالى عطف قوله: {ومتاعًا} على {أثاثًا} فوجب أن يتغايرا فما الفرق؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به. قلت: لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثًا وكونه مما يتمتع به {إلى حين} أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة.ثم إن المسافر قد لا يكون له خيام وأبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فذلك قال: {والله جعل لكم مما خلق ظلالًا} وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله: {وجعل لكم من الجبال أكنانًا} هي جمع كن وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوته في الجبال وكالغيران والكهوف {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها، وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الأغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالبًا بشهادة الوجدان. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب {وسرابيل تقيكم بأسكم} كالدروع والجواشن {كذلك يتم نعمته} أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعم الدين والدنيا {لعلكم تسلمون} قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه، وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك، أو تشكرون فتسلمون من العذاب، وقيل: تسلمون من الجرح بلبس الدروع {فان تولوا} فقد تمهد عذرك {فإنما عليك البلاغ المبين} وليس إليك الهداية. ثم ذمهم بأنهم {يعرفون نعمة الله} التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله {ثم ينكرونها} بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا، ومعنى {ثم} تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان: وقيل: إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو وصل إلينا بتربية فلان، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله، وقيل: نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عنادًا، وإنما قال: {وأكثرهم الكافرون} لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفال والمجانين، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون.قلت: ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم. اهـ.
قوله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين؛ والباقون بإسكانها، وهما لغتان بمعنىً كالنَّهْر والنَّهَر، وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر.قوله: {أَثَاثًا} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ عطفًا على {بُيوتًا}، أي وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثًا، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجرورًا على مجرور ومنصوبًا على منصوبٍ، ولا فَصْلَ هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ، وقال أبو البقاء: وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور وهو قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا}، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في الإِيضاح؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ مفعول، وتقديمُ مفعولٍ على مفعولٍ قياسٌ، وفيه نظرٌ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ومنصوبٍ على مثله.والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، ويكون قد عَطَفَ مجرورًا على مثلِه، تقديرُه: وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها بيوتًا حالَ كونِها أثاثًا، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول.وقوله: {كَلَمْحِ البصر} [النحل: 77]: اللَّمْحُ مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحًا ولَمَحانًا، أي: أَبْصَرَ بسرعة، وقيل: أصلُه من لَمْحِ البرق، وقولهم: لأُرِيَنَّك لَمْحًا باصرًا، أي: أمرًا واضحًا.وقوله: {فِي جَوِّ السماء} [النحل: 79]: الجَوُّ: الهواء، وهو ما بين السماء والأرض. قال: وقيل: الجَوُّ ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه.وقوله: {ظَعْنِكم} مصدرُ ظَعَن، أي: ارْتَحَلَ، والظَّعِيْنَةُ الهَوْدَجُ فيه المرأةُ، وإلا فهو مَحْمَلٌ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة، ظَعينة.وقال أهل اللغة: الأصوافُ للضَّأْن، والأَوْبار للإِبِل، والشَّعْر للمَعِز، والأَثاث: مَتاعُ البيت إذا كان كثيرًا، وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا. قال امرؤ القيس: ونساء أَثائِثُ، أي: كثيراتُ اللحمِ، كأنَّ عليهن أَثاثًا، وتَأَثَّث فلانٌ: كَثُر أثاثُه، وقال الزمخشري: الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت، والخُرْثِيُّ: ما قَدُم منها، وأنشد: وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا، وقال أبو زيد: واحدة: أَثاثَةٌ، وجمعُه في القلَّة أثِثَّة، كبَتات وأَبِتَّة. قال الشيخ: وفي الكثير على أَثَثٍ، وفيه نظر؛ لأنَّ فَعالًا المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا، وهما: عُنُن وحُجُج جمع عِنان وحِجاج، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما، فلا يجوز: زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة، وقال الخليل: الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهما كقوله: وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}.قوله تعالى: {أَكْنَانًا} جمع كِنّ وهو ما حَفِظ مِن الريح والمطرِ، وهو في الجبل: الغار.قوله: {تَقِيكُمُ الحر} قيل: حُذِف المعطوفُ لفَهْمِ المعنى، أي: والبردَ كقوله: أي: ويدُها، وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ بلادَهم حارَّة، وقال الزجاج: اقتصر على ذِكْر الحرِّ؛ لأنَّ ما يقيه يَقي البردَ، وفيه نظرٌ للاحتياجِ إلى زيادةٍ كثيرةٍ لوقاية البرد.قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ} أي: مِثْلَ ذلك الإِتمامِ السابقِ يُتِمُّ نعمتَه عليكم في المستقبل، وقرأ ابن عباس: {تَتِمُّ} بفتح التاء الأولى، {نِعْمَتُه} بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضًا {نِعَمه} جمع نعمة مضافةً لضميرِ الله تعالى، وعنه: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} بفتح التاء واللامِ مضارع سَلِم من السَّلامة، وهو مناسبٌ لقوله: {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}؛ فإنَّ المرادَ به الدُّروعُ الملبوسةُ في الحرب.{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)}.قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يجوز أن يكونَ ماضيًا، ويكون التفاتًا مِن الخطاب المتقدَّم، وأن يكونَ مضارعًا، والأصل: تَتَوَلَّوا بتاءيْن فحذف نحو: {تَنَزَّلُ} [القدر: 4]، و{تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، ولا التفاتَ على هذا بل هو جارٍ على الخطابِ السابق.قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} هو جوابُ الشرط، وفي الحقيقة جوابُ الشرطِ محذوفٌ، أي: فأنتَ معذورٌ، وإنما ذلك على إقامةِ السببِ مُقامَ المسبب؛ وذلك لأنَّ تبليغَه سببٌ في عُذْرِه، فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّب.{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}.قوله تعالى: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} جِيْءَ ب {ثُمَّ} هنا للدلالةِ على أنَّ إنكارَهم أمرٌ مستبعدٌ بعد حصولِ المعرفة؛ لأنَّ مَنْ عَرَفَ النعمة حَقُّه أن يَعْتَرِفَ لا أَنْ يُنْكِرَ. اهـ.
|