الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والظعن الهودج أيضًا {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أثاثا} معطوف على {جعل} أي: وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها.والأنعام: تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم.والأصواف: للغنم، والأوبار: للإبل، والأشعار: للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني: الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث، أي: كثير مجتمع، قال الشاعر: قال الخليل أثاثًا، أي: منضمًا بعضه إلى بعض، من أثّ إذا أكثر، قال الفراء: لا واحد له، والمتاع: ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري: إن الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل: إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى {إلى حِينٍ} إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة.ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو لعارض آخر، فيحتاج إلى أن يستظلّ بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك، نبه سبحانه على ذلك فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} أي: أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة، والحاصل: أن الظلال تعم الأشياء التي تظلّ.ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحرّ والبرد، نبه سبحانه على ذلك فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} وهي جمع كنّ: وهو ما يستكنّ به من المطر، وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله سبحانه عدّة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها، ويعتزلون عن الخلق فيها {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سربال، وهي: القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها.قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال.ومعنى {تَقِيكُمُ الحر} تدفع عنكم ضرر الحرّ، وخصّ الحرّ ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد.ووجه تخصيص الحرّ بالذكر أن الوقاية منه كانت أهمّ عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحرّ في بلادهم {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} وهي الدروع والجواشن، يتقون بها الطعن والضرب والرمي.والمعنى: أنها تقيهم البأس الذي يصل من بعضهم إلى بعض في الحرب.{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: مثل ذلك الإتمام البالغ يتمّ نعمته عليكم، فإنه سبحانه قد منّ على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها، وهو بفضله وإحسانه سيتمّ لهم نعمة الدين والدنيا.{لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} إرادة أن تسلموا، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلاّ الإسلام والانقياد للحق.وقرأ ابن محيصن، وحميد {تتم نعمته} بتاءين فوقيتين، على أن فاعله نعمته، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه.وقرأ ابن عباس، وعكرمة {تسلمون} بفتح التاء واللام من السلامة من الجراح، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام.قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.وقيل: الخطاب لأهل مكة أي: لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، والأولى الحمل على العموم، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر.{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي: إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به، فقد تمهد عذرك، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم {المبين} أي: الواضح، وليس عليك غير ذلك، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له.وجملة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} استئناف لبيان توليهم، أي: هم يعرفون نعمة الله التي عدّدها، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه، ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة، حيث يقولون: هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام.وحيث يقولون: إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم، وأيضًا كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الربّ سبحانه، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها.وقيل: نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه، ثم ينكرون نبوّته {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي: الجاحدون لنعم الله، أو الكافرون بالله.وعبر هنا بالأكثر عن الكلّ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} [النمل: 14].وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {سكنا} قال: تسكنون فيها.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} وهي خيام العرب {تَسْتَخِفُّونَهَا} يقول: في الحمل {ومتاعا} يقول بلاغًا {إلى حِينٍ} قال: إلى الموت.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قال: بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة، وفي قوله: {وَأَوْبَارِهَا} قال: الإبل {وَأَشْعَارِهَا} قال: الغنم.وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {أَثَاثًا} قال: الأثاث المتاع.وأخرج ابن جرير عنه أيضًا قال: الأثاث المال {ومتاعا إلى حِينٍ} يقول: تنتفعون به إلى حين.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} قال: من الشجر ومن غيرها {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} قال: غارات يسكن فيها {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قال: من القطن والكتان والصوف {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} من الحديد {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم.وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قال: يعني: الثياب، {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} قال: يعني: الدروع والسلاح {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} يعني: من الجراحات، وكان ابن عباس يقرؤها {تسلمون} كما قدّمنا، وإسناده ضعيف. اهـ.
قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} الآية.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يعرفون نعمه الله. لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم، ويدبر شؤونهم، ثم ينكرون هذه النعمة. فيعبدون معه غيره، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئًا.وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31]. فقوله: {فَسَيَقُولُونَ الله} دليل على معرفتهم نعمته، وقوله: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} دليل على إنكارهم لها، والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا.وروي عن مجاهد: ان سبب نزول هذه الآية الكرييمة: أن أعرابيًا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فساله. فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80]. فقال الأعرابي: نعم! قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} [النحل: 80]. الآية. قال الأعرابي: نعم! ثم قرأ عليه كل ذلك يقول الأعرابي: نعم! حتى بلغ {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]. فولى الأعرابي. فأنزل الله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل: 83]. الآية، وعن السدي رحمه الله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله} اي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينكرونها. اي يكذبونه وينكرون صدقه.وقد بين جل وعلا: أن بعثة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم من منن الله عليهم. كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]. الآية، وبين في موضع آخر: أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران، وذلك في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم: 28]، وقيل: يعرفون نعمة الله في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء، وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك، كقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، ونحوها من الآيات- إلى غير ذلك من الأقوال في الآية.وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} [النحل: 83]. قال بعض العلماء: معناه أنهم كلهم كافرون. أطلق الأكثر وأراد الكل. قاله القرطبي والشوكاني، وقال الشوكاني: أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم. أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل. اهـ.
|