الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (15- 19): {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)}وقوله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ} أي: ينتظرُ، {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} قال قتادة: تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ بصيحةِ القِيَامَةِ والنفخِ في الصُّور، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وقد رُوِيَ هذا التفسيرُ مرفوعاً، وقالتْ طائِفَةٌ: تَوَعَّدَهُمْ اللَّهُ بِصَيْحَةٍ يُهْلَكُونَ بِهَا في الدنيا، {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} قرأ الجمهورُ بفتح الفاءِ، وقَرأ حمزةُ والكسائي {فُوَاق} بِضم الفاء، قال ابن عباس: هما بمعنًى، أي: ما لَها من انْقِطَاعٍ وَعَوْدَةٍ، بَلْ هِي مُتَّصِلَةٌ حتى تُهْلِكَهُمْ، ومنه: فُوَاقُ الحَلْبِ، وهُوَ المُهْلَةُ التي بَيْنَ الشُّخْبَيْنِ، وقال ابن زَيْدٍ وغيرُهُ: المعنى مُخْتَلِفٌ، فالضَّمُّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى فُوَاقِ النَّاقَةِ، والفتحُ بِمَعْنَى الإفَاقَةِ، أيْ: لا يُفِيقُونَ فيها كما يُفِيقُ المَرِيضُ، والمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، والْقِطُّ: الحَظُّ والنصيبُ، والْقِطُّ أَيْضاً الصَّكُّ والكتابُ من السُّلْطَانِ بِصِلة، ونحوهِ، واختلِف في الْقِطِّ هُنَا، ما أرادوا به؟ فقال ابن جُبَيْر: أرادوا به: عَجَّلْ لَنَا نَصِيبَنَا من الخَيْرِ والنَّعيمِ في دُنْيَانا، وقال أبو العالية: أرادوا عَجِّل لنا صُحُفَنَا بأيمانِنا؛ وذلك لمَّا سَمِعُوا في القرآن أَنَّ الصُحُفَ تعطى يوم القيامةِ بالأيْمَانِ والشَّمائِل، وقال ابن عباس وغَيره: أرادوا ضِدَّ هَذَا من العذابِ ونحوهِ، وهذا نظيرُ قولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32] قال * ع *: وعلى كل تأويل، فكَلاَمُهُم خَرَجَ عَلى جِهَةِ الاسْتِخْفَافِ والهُزْءِ.{واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد} أَي: فَتَأَسَّ به ولاَ تَلْتَفِتْ إلى هؤلاءِ، {والأيْدِ} القُوَّةُ في الدين والشرع والصَّدْعُ به، وال {أَوَّابٌ} الرَّجَّاعُ إلى طَاعةِ اللَّهِ، وقاله مجاهد وابن زيد وفسَّره السُّدِّيُّ: بالمُسَبِّحِ، وتسبيحُ الجِبَالِ هنا حقيقةٌ، و{الإشْرَاق}: ضياءُ الشَّمْسِ وارتفاعُها، وفي هذين الوَقْتَيْنِ كانت صلاَةُ بنِي إسرائيل، قال الثعلبيُّ: وليس الإشْرَاقُ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وإنما هو صَفَاؤُها وضوءها، انتهى. قال ابن العربي في أحكامه: قال ابن عباس: ما كنتُ أعْلَمُ صلاةَ الضحى في القرآن حتى سمعتُ اللَّهَ تعالى يقول: {يُسَبِّحْنَ بالعشى والإشراق} قال ابن العربي: أما صلاةُ الضحى فَهِي في هذه الآيةِ نافلةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، ولا ينبغي أنْ تصلى حتى تتبينَ الشمسُ طَالعةً قَدْ أشْرَقَ نُورُهَا، وفي صلاةِ الضحى أحاديثُ أُصُولُهَا ثلاثةٌ: الأولُ حديثُ أبي ذَرٍّ وغيرِه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قال: «يُصْبِحُ على كُلِّ سلامى مِنِ ابن آدَمَ صَدَقَةٌ؛ تَسْليمُهُ على مَنْ لَقِيَ صَدَقَةٌ، وأَمْرُهُ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، ونَهْيُهُ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وإمَاطَتُهُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وبُضْعُهُ أهْلَهُ صَدَقَةٌ، ويجزئ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنَ الضحى». الثَّانِي: حديثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ عَنْ أبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَعَدَ في مُصَلاَّهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حتى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيْ الضحى لاَ يَقُولُ إلاَّ خَيْراً، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وإنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ».الثالثُ: حَدِيثُ أُمِّ هانئ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى يَوْمَ الفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، انْتَهَى.* ت *: وَرَوَى أبو عيسى الترمذيُّ وغَيْرُهُ عن أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تعالى، حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تَامَّةٍ»، قَالَ الترمذيُّ: حديثٌ حَسَنٌ انتهى. قال الشَّيْخُ أَبو الحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ في شرحه للبُخَارِيِّ: وعن زيدِ بْنِ أسْلَمَ قَال: سمعتُ عَبد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يقولُ لأبي ذَرٍّ: أوْصِنِي يَا عَمُّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي؛ فَقَالَ: «مَنْ صَلَّى الضحى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافِلِينَ، وَمَنْ صلى أَرْبَعَاً، كُتِبَ مِنَ العَابِدِينَ، ومَنْ صلى ستًّاً، لَمْ يَلْحَقْهُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صلى ثَمانياً، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صلى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» انتهى.{والطير}: عَطْفٌ عَلَى الْجِبَالِ، أي: وسَخَّرْنَا الطيرَ، و{مَحْشُورَةً} معناهُ مجموعةً، والضميرُ في {لهُ} قَالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائدٌ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ و{كُلٌّ} على هذا، يُرَادُ بهِ: دَاوُدُ والجبالُ والطيرُ، وقالت فرقة: هو عائدٌ على داودَ ف {كُلٌّ} على هذا يُرَادُ بهِ الجبالُ والطيرُ..تفسير الآيات (20- 22): {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)}وقوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}: عبارةٌ عامَّةٌ لجميعِ مَا وَهَبَه اللَّه تَعالى من قوَّةٍ وجندٍ ونعمةٍ، {وَفَصْلَ الخطاب}، قال ابن عباس وغيره: هو فَصْلُ القَضَاءِ بَيْنَ الناسِ بالحقِ وإصابتُه وفَهْمُه، وقال الشعبي: أرادَ قَوْلَ أمَّا بَعْدُ فإنه أَوَّلُ مَنْ قَالَها، قال * ع *:: والذَّي يُعْطِيهِ اللفظُ أنَّه آتاه فَصْلَ الخطابِ، بمعنى أنَّه إذا خَاطَبَ في نَازِلةٍ، فَصَلَ المعنى وأوْضَحَهُ، لا يأْخذُهُ في ذلك حَصَرٌ وَلا ضَعْف.وقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم} الآية مخاطبةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، واسْتُفْتِحَتْ بالاسْتِفْهَام؛ تَعْجِيباً مِنَ القصَّةِ وتفخيماً لها، والخصمُ يُوصَفُ بهِ الواحِدُ والاثْنَانِ والجَمْعِ، و{تَسَوَّرُواْ} معناه: عَلَوْا سُورَهُ، وهو جَمْعُ سُورَةٍ وهي القطعةُ من البناء، وَتَحْتَمِلُ هذه الآيةُ أن يكونَ المُتَسَوِّرُ اثْنَانِ فَقَطْ، فَعَبَّرَ عَنْهُما بلَفْظِ الجَمْعِ، ويحتملُ أن يكونَ معَ كلِّ واحدٍ منَ الخَصْمَيْنِ جَمَاعَةٌ، و{المحراب} المَوْضِعُ الأرْفَعُ مِنَ القَصْرِ أو المَسْجِدِ، وهو موضع التعبُّد، وإنما فَزِعَ منهم مِنْ حَيْثُ دَخَلُوا من غير الباب، ودون استئذان، ولا خلافَ بَيْن أهلِ التأويلِ أنَّ هذا الخَصْمَ إنما كانوا ملائكةً بَعَثَهُمْ اللَّهُ ضَرْبَ مَثَلٍ لداودَ، فاختصموا إليه في نازلةٍ قَدْ وَقَعَ هُو في نَحْوِهَا، فأَفْتَاهُمْ بِفُتْيَا هِي وَاقِعَةٌ عليه في نازلته، ولَمَّا شَعَرَ وَفَهِمَ المُرَادَ، خَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ، واسْتَغْفَرَ، وأمَّا نَازِلَتُهُ الَّتي وَقَع فِيها، ففيها للقُصَّاصِ تَطْوِيلٌ، فَلَمْ نَرَ سَوْقَ جَمِيعِ ذلكَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ.ورُوِيَ فِي ذلكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ما معناه؛ أن دَاوُدَ كَانَ في مِحْرَابِهِ يَتَعَبَّدُ؛ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ طَائِرٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، فَمَدَّ يَدَهُ إليْه؛ ليأخُذَهُ، فَزَالَ مُطْعِماً لَه مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى امْرَأَةٍ لَهَا مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ أنْ لَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ، وَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ أَنَّهَا امْرَأَةُ أُورِيَّا، وَكَانَ في الجِهَادِ فَبَلَغَهُ أنَّه اسْتُشْهِدَ فَخَطَبَ المَرْأَةَ، وَتَزَوَّجَهَا، فَكَانَتْ أُمَّ سُلَيْمَانَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الخَصْمَ لِيُفْتِيَ، قَالَتْ فرقةٌ من العلماء: وإنما وَقَعَتْ المعَاتَبَةُ على هَمِّهِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْه شَيْءٌ سِوَى الهَمِّ، وكانَ لِدَاوُدَ فِيما رُوِيَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَفي كُتُبِ بَنِي إسرائيل في هذه القصة صُوَرٌ لاَ تَلِيقُ، وقد قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ حَدَّثَ بِما قَالَ هؤلاءِ القُصَّاصُ في أَمْرِ دَاوُدَ، جَلَدْتُهُ حَدَّيْنِ لما ارتكب مِنْ حُرْمَةِ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ.وقوله: {خَصْمَانِ} تقديرُه: نَحْنُ خصمانِ، و{بغى} معناه: اعتدى واسْتَطَالَ، {وَلاَ تُشْطِطْ} معناه: وَلاَ تَتَعَدَّ في حُكْمِكَ، و{سَوَاءِ الصراط} معناه: وَسَطُهُ..تفسير الآيات (23- 25): {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25)}وقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِى} إعرابُ {أخي}: عَطْفُ بَيَانٍ، وذلك أن مَا جرى من هذه الأشياء صِفةً كالخَلْقِ والخُلُقِ وسَائِر الأوْصَافِ، فَإنَّه نَعْتٌ مَحْضٌ، والعاملُ فيه هو العاملُ في الموصوفِ، وما كان مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ يُوصَفُ بهِ بَتَّةً، فهو بَدَلٌ والعَامِلُ فيه مُكَرَّرٌ أي: تقديراً يقال: جَاءَنِي أخوك زيدٌ، فالتقديرُ: جَاءَنِي أَخُوكَ، جَاءَنِي زَيْدٌ، ومَا كَان مِنْها مِمَّا لاَ يُوصَفُ بهِ، واحتيج إلى أنْ يُبَيَّنَ بِه، وَيَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ.والنعجة في هذه الآيةِ عَبَّرَ بِهَا عَنِ المَرْأَةِ، والنعجةُ في كلام العرب: تقعُ على أنثى بَقَرِ الوَحْشِ، وعلى أُنْثَى الضَّأْنِ، وتُعَبّرُ العَرَبُ بِهَا عن المَرْأَةِ.وقوله: {أَكْفِلْنِيهَا} أي: رُدَّهَا في كَفَالَتِي، وقال ابنُ كَيْسَانَ: المعنى: اجعلها كِفْلِي، أي: نَصِيبي، {وَعَزَّنِى} معناه: غَلَبَنِي، ومنه قول العربِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ أي: مَنْ غَلَبَ، سَلَبَ، ومعنى قوله: {فِى الخطاب} أي: كان أوْجَهَ مِنِّي، فإذَا خَاطَبْتُهُ، كانَ كلامُه أقوى من كلامي، وقُوَّتُهُ أعْظَمَ مِنْ قُوَّتِي.ويروى أنَّه لَمَّا قَالَ: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ}، تَبَسّما عند ذلكَ، وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُما لحِينه، فَشَعَرَ حينئذ للأمْرِ، ويروى أنَّهُمَا ذَهَبَا نَحْوَ السَّمَاءِ بِمَرْأًى مِنْه.و{الخلطآء}: الشُّرَكَاءِ في الأمْلاَكِ، والأُمُورِ، وهذا القَوْلُ مِنْ دَاوُدَ وَعْظٌ لِقَاعِدَةِ حَقٍّ، ليُحَذِّرَ الخَصْمَ مِنَ الوُقُوعِ في خلافِ الحقِّ.وقوله تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}: قال أبو حيان: {وَقَلِيلٌ} خبرٌ مقدَّم، ومَا زائِدةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، انتهى.وَرَوَى ابْنُ المبارَكِ في رقائقه بسندِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أشَدُّ الأعْمَالِ ذِكْرُ اللَّهِ على كُلِّ حَالٍ، والإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأخِ في المالِ» انتهى.وقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه} معناه: شَعَر لِلأَمْرِ وَعَلِمَهُ، و{فتناه} أي: ابْتَلَيْنَاهُ وامْتَحَنَّاهُ، وقال البخاريُّ: قال ابن عباس: {فتناه} أي: اختَبَرْنَاهُ، وأسْنَد البخاريُّ عن مجاهدٍ قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عَنْ سَجْدَةِ صا أين تَسْجُدُ، فَقَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأَ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وسليمان} [الأنعام: 84] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فَكَانَ داوُد مِمَّن أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أنْ يَقْتَدِيَ بهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ؛ فَسَجَدَهَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، انتهى، فتأمَّلَهُ وما فيه مَنَ الْفِقْهِ، وقَرأ أبو عمرٍو في رِوَاية علي بن نَصْرٍ: {فَتَنَاهُ} بتخفيفِ التاء والنون على إسنادِ الفعلِ للخَصْمَيْنِ، أي: امتحناه عَنْ أَمْرِنَا، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: رأيتُنِي في النوم أكتُبُ سورَة صا فَلَما بَلَغْتُ قَوْلَهُ: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} سَجَدَ القلمُ، ورَأيتُنِي في مَنامٍ آخَرَ، وشَجَرَةٌ تَقْرَأُ سُورَةَ صا فلما بَلَغَتْ هَذَا، سَجَدَتْ، وَقَالَتْ: اللَّهُمَّ، اكْتُبْ لِي بِهَا أجْراً، وَحُطَّ عَنِّي بِهَا وِزْراً، وارزقني بِهَا شُكْراً، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَها مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وَسَجَدْتَ أنْتَ يَا أَبا سَعِيد؟ قُلْتُ: لاَ، قال: أَنْتَ كُنْتَ أَحَقَّ بالسَّجْدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، ثم تَلاَ نبيُّ اللَّهِ الآياتِ حتى بَلَغَ: {وَأَنَابَ}، فَسَجَدَ، وقَالَ كَمَا قَالَتِ الشَّجَرَةُ.{وَأَنَابَ} مَعْنَاهُ: رَجَعَ، * ت *: وحديثُ سجودِ الشجرةِ رواهُ الترمذيُّ وابن ماجَه والحاكمُ وابنُ حِبَّان في صحيحَيْهما، وقال الحاكم: هو منْ شَرْطِ الصِّحَّةِ، انتهى من السلاح.والزُّلْفَى: القُرْبَةُ والمكانةُ الرفيعةُ، والمآبُ: المَرْجِعُ في الآخِرَةِ من آب يَئُوبُ: إذا رَجَعَ..تفسير الآيات (26- 28): {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}وقوله تعالى: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الارض} تقديرُ الكلامِ: وقُلْنَا لَهُ يا داوُدُ، قال * ع *: ولاَ يُقَالُ خليفةُ اللَّهِ إلا لرسولِه، وأما الخلفاءُ، فكل واحدٍ خَليفَةٌ للذي قَبْلَهُ، ومَا يَجِيءُ في الشِّعْرِ مِنْ تَسْمِيَة أحدهِم خليفةَ اللَّه فذلك تجوُّزٌ وَغُلُوٌّ؛ أَلا ترى أن الصَّحابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَرَزُوا هذا المعنى، فقالوا لأبي بَكْرٍ: خليفةُ رسولِ اللَّهِ، وبهذا كَانَ يدعى مدةَ خلافَتِه، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ؛ قالُوا: يا خليفةَ خليفةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَطالَ الأمْرُ، وَرأَوْا أنَّهُ في المُسْتَقْبَلِ سَيَطُولُ أكْثَرَ؛ فَدَعَوْهُ أَمِيرَ المُؤمنينَ، وقُصِرَ هَذا الاسْمُ عَلى الخُلَفَاءِ.وقوله: {فَيُضِلَّكَ} قالَ أبو حيان: منصوبٌ في جوابِ النَّهْي، ص أبو البقاءِ وقيل: مجزومٌ عَطْفاً عَلَى النَّهْيِ وفُتِحَتِ اللامُ لالْتِقَاءِ الساكنين، انتهى.وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} إلى قوله: {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب}: اعْتِرَاضٌ فصيحٌ بين الكلامينِ من أمرِ دَاوُدَ وسليمانَ، وهو خطابٌ لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعِظَةٌ لأمَّتِه، و{نَسُواْ} في هذه الآية مِعْنَاهُ تَرَكُوا، ثم وقفَ تَعالى عَلى الفَرْقِ عندَه بيْنَ المؤمِنينَ العامِلينَ بالصَّالِحَاتِ وبَيْنِ المفْسِدِينَ الكَفَرَةِ وبَيْنَ المتَّقِينَ والفُجَّارِ، وفي هَذَا التوقيفِ حَضٌّ عَلَى الإيمانِ والتقوى، وتَرْغِيبٌ في عَمَل الصالحات، قَال ابنُ العَرَبِيِّ: نَفَى اللَّهُ تَعَالَى المساواةَ بَيْنَ المؤمِنينَ والكافِرِينَ، وبَيْنَ المتقينَ والفُجَّار؛ فلا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ في الآخرةِ، كَما قَالهُ المفَسِّرون ولاَ في الدُّنْيَا أيْضاً؛ لأنَّ المؤمنينَ المتقينَ معصومُونَ دَماً ومالاً وعرْضاً، والمُفْسِدُونَ في الأرض والفُجَّارُ مُبَاحُو الدَّمِ والمالِ والعِرْضِ، فَلاَ وَجْهَ لِتَخْصِيصِ المفسِّرِينَ بِذَلِكَ في الآخرة دون الدُّنْيَا، انتهى، من الأحكام؛ وهذا كما قال: وقوله تعالى في الآية الأخرى: {سَوَاءً محياهم ومماتهم} [الجاثية: 21] يشهد له، وباقي الآية بَيِّنٌ..تفسير الآيات (29- 33): {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}وقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته} قال الغَزَّالِيُّ في الإحْيَاءِ: اعْلَمْ أن القرآن مِنْ أَوَّلِه إلى آخِرِه تحذيرٌ وتخويفٌ لاَ يَتَفَكَّرُ فيه مُتَفَكِّرٌ إلا وَيَطُولُ حُزْنُهُ، وَيَعْظُمُ خَوْفُه إنْ كَانَ مُؤْمِناً بِمَا فِيه وَتَرى النَّاسَ يَهْذُّونَهُ هَذًّا، يُخْرِجُونَ الحُروفَ مِنْ مُخَارِجِها، ويَتَنَاظَرُونَ على خَفْضِها ورَفْعِها وَنَصْبِها، لاَ يَهُمُّهُمْ الالتِفَاتُ إلى مَعانِيها والعملِ بما فِيها، وَهَلْ في العِلم غُرُورٌ يَزِيدُ على هذا، انتهى من كِتَابِ ذَمِّ الغُرُور.واختلفَ المتأولونَ في قَصَصِ هذهِ الخيل المَعْرُوضَةِ عَلى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلامُ فقال الجُمْهُورُ: إنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلام عُرِضَتْ عليه آلافٌ مِنَ الخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ، فأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عِشَاءً، فَتَشَاغَلَ بجريها وَمَحَبَّتِهَا، حتى فَاتَهُ وَقْتُ صَلاَةِ العَشِيِّ، فَأَسِفَ لِذَلِكَ؛ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الخَيْلَ؛ فَطَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعْنَاقَها بالسَّيْفِ، قَالَ الثَّعْلَبيُّ وغيره، وجَعَل يَنْحَرُهَا تَقَرُّباً إلى اللَّهِ تعالى؛ حيثُ اشْتَغَل بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وكان ذلكَ مُبَاحاً لَهُمْ كما أُبِيحَ لَنا بهيمةُ الأنْعَامِ، قال * ع*: فَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَبْدَلَهُ مِنْهَا أَسْرَعَ منها، وهي الرِّيحُ، قال ابن العربيِّ في أحكامه: و{الخير} هنا هي الخيل؛ وكذلكَ قَرأَها ابنُ مَسْعُود: {إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْلِ} انتهى، والصَّافِنُ: الذي يَرْفَعُ إحدى يديه؛ وقَدْ يَفْعَلُ ذلكَ برِجْلِهِ؛ وهي علامةُ الفَرَاهِيَة؛ وأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ: [الكامل]قالَ بَعْضُ العلَماء: {الخير} هنَا أرادَ به الخَيْلَ، والعَرَبُ تُسَمي الخَيْلَ، الخَيْرَ، وفي مِصْحَفِ ابْن مَسْعُودٍ: {حُبَّ الخَيْلِ} باللامِ.والضميرُ في {تَوَارَتْ} للشمسِ، وإن كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْرٌ: لأنَّ المعنى يَقْتَضِيهَا، وأيضاً فَذِكْرُ العَشِيِّ يَتَضَمَّنُهَا، وقالَ بعضُ المفسرينَ {حتى تَوَارَتْ بالحجاب}، أَي: الخيلُ دَخَلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، وقال ابنُ عبَّاسٍ والزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بالسَّيْفِ؛ بل بيدهِ تَكْرِيماً لَها؛ ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وفي البخاري: {فَطَفِقَ مَسْحاً} يمسحُ أعْرَافَ الخَيلِ وعَرَاقِيبَهَا؛ انتهى، وعن بعضِ العلماءِ أَنَّ هذهِ القصةَ لَمْ يَكُنْ فيها فَوْتُ صلاةٍ، وقالوا: عُرِضَ على سليمانَ الخيلُ وهو في الصلاةِ، فأشَارَ إليهم؛ أي: إني في صلاةٍ، فأزَالُوهَا عَنْهُ حتى أَدْخَلُوها في الإصْطَبْلاَتِ، فقالَ هو، لَمَّا فَرَغَ من صلاته: إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ، أي: الذي عِنْدَ اللَّهِ في الآخِرةِ؛ بسببِ ذِكْرِ ربي، كَأَنه يقول: فَشَغَلَنِي ذلكَ عَنْ رُؤْيَةِ الخيلِ، حتى أُدْخِلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، رُدُّوهَا عَليّ، فَطَفِقَ يَمْسَحُ أعْرَافَهَا وسُوقَهَا، تَكْرمةً لها، أي: لأَنَّها معدَّةٌ للجهَادِ، وهذا هو الراجحُ عند الفخر، قال: ولو كانَ معنى مَسْحِ السُّوقِ والأعناقِ قَطْعَهَا لَكَانَ معنى قوله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] قطعَهَا * ت *: وهَذَا لا يلزمُ للقرينَةِ في الموضعين، اه. قال أبو حَيَّان: و{حُبَّ الخير} قال الفراء: مفعولٌ بهِ، {أَحْبَبْتُ} مُضَمَّنٌ معنى آثَرْتُ، وقيلَ: منصوبٌ على المصدرِ التَّشْبِيهِي، أي: حبًّا مِثْلَ حُبِّ الخير، انتهى.وقوله: {عَن ذِكْرِ رَبِّى} {عن} على كُلِّ تَأويلٍ هنا للمُجَاوَزَةِ من شيءٍ إلى شَيْءٍ، وَتَدَبَّرْهُ فإنه مُطَّرِدٌ.
|