الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (65- 66): {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} أي اليهود والنصارى، على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل، وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع، فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به، وإقامتَهم له لا محالة، فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلُه أقبحُ من كل قبيح وأشنعُ من كل شنيع، فمفعول قوله تعالى: {ءامَنُواْ} محذوف ثقةً بظهوره مما سبَقَ من قوله تعالى: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} وما لَحِقَ من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة} الخ، أي لو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إرادةُ إيمانهم به عليه السلام خاصة فيأباها المقام، لأن ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به عليه السلام إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابِهم أيضاً قصداً إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفرَ به عليه الصلاة والسلام مستلزمٌ للكفر بكتابهم، فحملُ الإيمانِ هاهنا على الإيمان به عليه السلام خاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظم الكريم. {واتقوا} ما عدَدْنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفةُ كتابهم {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي اقترفوها وإن كانت في غاية العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم نؤاخِذْهم بها {ولأدخلناهم} مع ذلك {جنات النعيم} وتكريرُ الام لتأكيدِ الوعد، وفيه تنبيه على كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود.{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهدُ نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم ومبشراتُ بِعثتِه، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعاةُ الكلِّ من إقامتهما في شيء {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من القرآن المجيد المصدِّق لكتبهم، وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم، وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديمُ {إليهم} لما مر من قبل، وفي إضافة الرب إلى ضمير {هم} مزيدُ لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة، وقيل: المراد بما أنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيل مثلُ كتاب (شعياء) وكتاب (حبقوق) وكتاب (دانيال) فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم {لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ السماء والأرض، أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من رؤوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض، وقيل: المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين، كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، ومفعول {أكلوا} محذوف بقصد التعميم، أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله: فلان يعطي ويمنع، و{مِنْ} في الموضعين لابتداء الغاية وفي هاتين الشرطيتين من حثِّهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم عن الإخلال به بما ذُكر ببيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها وتنبيههم على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ما لا يخفى.{مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب، كأنه قيل: هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان؟ الخ، فقيل: {منهم أمة مقتصدة} إما على أن {منهم} مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة، وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله} الآية، أي طائفة معتدلة وهم المؤمنون منهم كعبد اللَّه بنِ سلام وأضرابِه، وثمانيةٌ وأربعون من النصارى، وقيل: طائفة حالُهم أَممٌ في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ} مبتدأ لتخصُّصِه بالصفة خبرُه {سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي مقولٌ في حقهم هذا القولُ، أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه، والإفراطِ في العداوة، وهم الأجلافُ المتعصِّبون ككعبِ بن الأشرف وأشباهه والروم..تفسير الآية رقم (67): {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}{يأيها الرسول} نودي عليه السلام بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أُمر به من تبليغ ما أُوحِيَ إليه {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع ما أنزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها كائناً ما كان، وفي قوله تعالى: {مِن رَبّكَ} أي مالِكِ أمورِك ومبلِّغِك إلى كمالك اللائقِ بك، عِدَةٌ ضِمْنية بحفظه عليه السلام وكَلاءته، أي بلِّغْه غيرَ مراقِبٍ في ذلك أحداً ولا خائف أن ينالك مكروهٌ أبداً {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ما أُمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فإن ما لا تتعلق به الأحكامُ أصلاً من الأسرار الخفية ليست مما يُقصَدُ تبليغه إلى الناس، أي فما بلغت شيئاً من رسالته وانسلخْتَ مما شَرُفتَ به من عنوان الرسالة بالمرة، لِما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤدِّ بعضها فكأنك أغفلتَ أداءَها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كلَ منها بما يُدليه غيرها، وكونُها لذلك في حكم شيءٍ واحد، ولا ريب في أن الواحد لا يكونُ مُبلَّغاً غيرَ مبلَّغٍ مؤمَناً به غيرَ مؤمَنٍ به، ولأن كتمان بعضها إضاعةٌ لما أُدِّيَ منها كترك بعض أركان الصلاة فإن عرضَ الدعوة ينتقض بذلك، وقيل: فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} من حيث أن كتمان البعض والكل سواءٌ في الشناعة واستجلاب العقاب، وقرئ {فما بلغت رسالاتي} وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن كتمتَ آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذرعاً فأوحَى الله إلي إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عذبتُك وضمِن لي العصمة فقوِيْتُ» وذلك قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} فإنه كما ترى عِدَةٌ كريمةٌ بعصمته من لُحوق ضررهم بروحه العزيزِ باعثةٌ له عليه السلام على الجِدّ في تحقيق ما أمر به من التبليغ غيرَ مكترثٍ بعداوتهم وكيدهم. وعن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يُحرَسُ حتى نزلت فأخرج رأسَه من قُبّةٍ أَدَمٍ فقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس» وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} تعليل لعصمته تعالى له عليه السلام أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الإضرار، وإيرادُ الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب لِما أن الكل قوارعُ يسوء الكفارَ سماعُها، ويشُقّ على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتُهم بها، وخصوصاً ما يتلوها من النصِّ الناعي عليهم كمالَ ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل:.تفسير الآية رقم (68): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}{قُلْ ياأهل الكتاب} مخاطِباً الفريقين {لَسْتُمْ على شَىْء} أيْ دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءه {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} أي تراعوهما وتحافظوا على مافيهما من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما، لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثه، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ} أي القرآن المجيد بالإيمان به، فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك، وتقديمُ إقامةِ الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق، وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به لا كما يزعُمون من اختصاصه بالعرب، وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف في الدعوة، وقيل: المراد بما أُنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيلَ كما مر، وقيل: الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى؟ فقال عليه السلام: بلى، فقالوا: فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت»، قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرة والعناد وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً، وتصديرُها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها، والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم، ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم، فإن غائلتَه آيلةٌ إليهم وتبِعَتَه حائقةٌ لا تتخطاهم، وفي المؤمنين مندوحةٌ لك عنهم، ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر..تفسير الآية رقم (69): {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} كلام مستأنَفٌ مسوق لترغيب مَنْ عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين آمنوا بألسنتهم فقط وهم المنافقون، وقيل: أعمُّ من أن يُواطِئَها قلوبُهم أو لا {والذين هَادُواْ} أي دخلوا في اليهودية {والصابئون والنصارى} جمعُ نَصْرانَ وقد مر تفصيله في سورة البقرة، وقوله تعالى: {والصابئون} رفع على الابتداء وخبرُه محذوف والنيةُ به التأخرُ عما في حيّز إنّ والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كيتَ وكيتَ والصابئون كذلك كقوله:وقوله: خلا أنه وسَطٌ بين اسْمِ إن وخبرِها دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلِّها حيث قُبلت توبتُهم إن صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالح، فغيرُهم أولى بذلك، وقيل: الجملة الآتية خبرٌ للمبتدأ المذكور، وخبرُ إن مقدر كما في قوله: وقيل: {النصارى} مرفوعٌ على الابتداء كقوله تعالى: {والصابئون}، عطفاً عليه وهو مع خبره عطفٌ على الجملة المصدَّرة بإن ولا مَساغَ لعطفه وحده على محل إن واسمها لاشتراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بإن والابتداء معاً، واعتُذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكورُ خبراً لهما، وأما إذا كان خبرُ المعطوف محذوفاً فلا محذورَ فيه ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل، ولاستلزامه كونَ الصابئين هُوداً، وقرئ {والصابيون} بياء صريحةٍ بتخفيف الهمزة، وقرئ {والصابون} وهو من صبا يصبو لأنهم صبَوْا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم، وقرئ {والصابئين}، وقرئ {يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون}، وقوله تعالى: {مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وَعَمِلَ صالحا} إما في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف، أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عُطف عليه، والخبر قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ} والفاء كما في قوله عز وعلا: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} الآية، فالمعنى على تقديم كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر أي من أحدث من هذه الطوائف إيماناً خالصاً بالمبدأ والمَعادِ على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإن ذلك بمعزل من أن يكون إيماناً بهما، وعمل عملاً صالحاً حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفارُ العقابَ ولا هم يحزنون حيث يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيانُ دوام انتفائهما لا بيانُ انتفاء دوامهما كما يوهمُه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما مر مراراً لأن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين، فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمَعادِ على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف، وفائدةُ التعميم للمخلصين المبالغةُ في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين الأعلام، وأما ما قيل: المعنى من كان منهم في دينه قبل أن يُنسَخَ مصدِّقاً بقلبه بالمبدأ أو المعاد عاملاً بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلاً كما مر تفصيله في سورة البقرة. .تفسير الآية رقم (70): {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل} كلام مبتدأٌ مَسوق لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة. {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} ذوي عددٍ كثير وأولي شأنٍ خطير ليقرِّروهم على مراعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والتذكير، وقوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} جملة شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل، وجواب الشرط محذوف، كأنه قيل: فما فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه أنفسُهم المنهمكةُ في الغيِّ والفساد من الأحكام الحَقّة والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه، وقوله تعالى: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل: فريقاً منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقاً آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضاً، وإنما أُوثر عليه صيغة المضارع على حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ، وللمحافظة على رؤوس الآي الكريمة، وتقديم فريقاً في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا، وأما جعلُ الشرطية صفةً لـ {رسلاً} كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلاً ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو صلةً يُنسخ ما فيها من الحكم وتُجعل عنواناً للموصوف تتمةً له في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفاً له، ومن هاهنا قالوا: إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبارُ بعد العلم بها أوصافٌ، ولا ريب في أن ما سبق له النظم إنما هو بيانُ أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلُها استئنافاً على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، لا بيانُ أنه تعالى أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلِها صفةً.
|